الكمأة العجيبة

تاريخ التسجيل : 27/07/2009

بعد هطول أمطار جيدة على البلاد في الفترة التي سبقت ديسمبر من العام الماضي، من المحتمل أن نرى الكثيرين من الأهالي في شهر مارس الحالي يجوبون في الأراضي الخفيضة التي تنمو فيها الشجيرات الصغيرة على امتداد الساحل وعيونهم تحدق في الأرض وهم يبحثون عن شيء ما. هدفهم هو علامة ما، بقعة صغيرة من الأرض بتربة متفسخة قرب شجيرة، وهي العلامة التي تدل على وجود فطر ينمو تحت الأرض يسمى الكمأ أو كما يسمونه في المنطقة "الفقع".
يعتبر هذا الفطر من المأكولات الشهية وهو سلعة غالية الثمن لندرتها كما تزداد ندرة مع الزمن. يعيش هذا الفطر متكافلاً مع نوع النباتات يدعى في المنطقة "الرُقرُق" أو "جريد". ينمو هذا النبات في الشريط الساحلي الضيق الذي يمتد مباشرة بموازاة الشواطئ إلى جانب بقع محدودة في الجبال.

ويحصل الفقع على غذائه عبر أنابيب شعرية تنبت منه وتخترق جذور ذلك النبات. ويعتقد الباحثون أن الفقع في المقابل يفرز مادة كيماوية تحمي النبات المضيف من منافسة النباتات الأخرى له. وقد كانت المنطقة بين جميرا وجبل علي عادة مكاناً جيداً للبحث عن الفقع، غير أنها تحولت الآن إلى أرض تنتشر فيها مواقع البناء كالفطر. والمنطقة الوحيدة المعروفة بوجود الفقع فيها ولا تزال موجودة حتى الآن هي تلك الممتدة بين عجمان ورأس الخيمة. ومع ذلك بدأت الأبنية تكثر في هذه المنطقة مما سيجعل الفقع في الإمارات قريباً حكاية من الماضي.

الكاتب والمصور النيوزلندي جون فيني الذي أمضى أربعة عقود في القاهرة، قد درس الفقع دراسة معمقة ولديه حكايا رائعة ليقولها عن هذا الفطر:

تشير مخطوطات البردي الفرعونية القديمة إلى أن الكمأ الصحراوي كان يؤتى به إلى موائد فراعنة مصر وبعدها بثلاثة آلاف عام تقريباً كانت موائد الخلفاء الفاطميين في القاهرة تزين بأطباق الكمأ.

ثيوفراستوس تلميذ أرسطو تحدث عن الكمأ عام 500 قبل الميلاد ووصفه بأنه "ظاهرة طبيعية شديدة التعقيد وواحد من أغرب النباتات، بلا جذر ولا ساق ولا ألياف ولا أغصان ولا براعم ولا أوراق ولا أزهار."

كما عجز الإنسان ولا يزال عن زراعة الكمأ. فهو ينمو في البرية وغالباً ما يتعايش مع نبات آخر. الجزء الذي يؤكل من هذا الفطر هو ثمرته. أنواع الكمأ الصحراوي التي يبلغ عددها حوالي 30 نوعاً، تنتمي كلها إلى عائلة تيرفيزيا أو تيرمانيا، وهي قريبة لأنواع الكمأ العطري بيدموند وألبا وأمبريا الإيطالية و"بيريغورد" الفرنسية التي تنمو حول أشجار البلوط والبندق. فطر الصحراء هذا يوجد في عدة دول ويشار إليه بعدة أسماء. في الكويت يسمونه فقاع أو فقعة أما في العراق وسوريا فيسمونه الكمأ (وهو سمه في العربية الفصيحة) فيما يسمونه في عمان الفقاح أو كمبا أو الزبيدي. أما في شمال إفريقيا التي كان الرومان يأتون منها بفطرهم، فيوجد نوع أبيض منه يسمى ترفيز ومنه اشتق الاسم اللاتيني العلمي تيرفيزيا.

الكمأ في إنكلترا لا يشابه نظيره في القارة الأوروبية بل ينتمي لعائلة نباتية تسمى توبر ويختلف عنه بالشكل والطعم. موروثات المنطقة تقول إن نمو الفقع ظاهرة يسببها الرعد والبرق، وهو ما يؤكد علاقته بهطول المطر وما جربته شخصياً.

هناك أنواع عديدة من كمأ الصحراء. أشهرها هو الزبيدي ذي اللون الطحيني الذي ينبت في الأنحاء الشرقية من المملكة العربية السعودية ويتميز بنكهة لذيذة جداً. وفي المنطقة نفسها ينبت أيضاً "الخلاسي" ولونه أسود مع لب عاجي يميل للوردي. معظم أنواع الكمأ المحلي بنية اللون ويصل قطرها حتى 10 سنتيمترات وشكلها يشبه حبة البطاطا الصغيرة. كما أنها خفيفة الوزن وذات رائحة خفيفة تشبه رائحة المشروم.

أما الكمأ الذي يوجد قريباً من الشجيرات في الجبال فهو أكبر حجماً. وقد ذكر لي مزارع ذات مرة أنه عثر على فقعة وزنها يزيد عن كيلو غرام وحين قطعها وجد داخلها أفعى كانت تستخدم الجزء الداخلي الأجوف منها كجحر لها. ومع أنه كان من الصعب علي تصديق ذلك، إلا أن المزارع أكد لي أن ما قاله كان صحيحاً.

في أوائل الثمانينيات حين كانت البلاد تشهد أمطاراً شتوية مبكرة كنت أمضي ساعات طويلة وأنا أبحث تحت الشجيرات بجانب شاطئ جميرا عن الفقع. أفضل وقت للبحث عنه هو عند الفجر أو الأصيل حين تكشف لك أشعة الشمس المائلة الخفيفة أي تغير بسيط يعتري سطح الرمال وقد يشي بوجود الكمأ على عمق شبر تحت السطح. ورغم أني كنت أعرف النباتات التي ينمو بجانبها الفقع وأعرف أني يجب أن أبحث عن أماكن تفسخ التربة، فلم أتمكن أبداً من العثور ولو على واحدة. الأمر يحتاج عيوناً متدربة. الإماراتيون والباتان كانوا أكثر نجاحاً مني.

حين العثور على كمأ الصحراء يجب حفظه في مكان مظلم وبارد والأفضل وضعه في سلة وعدم وضعه في كيس نايلون أبداً. فيل إديسون الخبير في أطباق البحر المتوسط جرب تجميد بعضها ووجد أن مذاقها لم يتأثر أبداً بالتجميد. ونتيجة لندرة الكمأ وضرورة أن يكون طازجاً تماماً، فهو غالي السعر جداً وقد يكلف ما بين 50 و150 درهم للكيلو، أما إذا كان مستورداً من بلد بعيدة مثل مصر، فربما يصل السعر إلى 1000 درهم للكيلو.
أذكر أن صديقاً من أهل البلد أهداني في عام 1998، الذي شهد موسماً طيباً للفقع، حفنة من الفقع وجدها قرب عجمان. ومع أني نظفتها وحمستها قليلاً كما علمني، إلا أني لم أجد طعمها مميزاً تلك المرة. وهذا ما يجعلني أفترض أن المذاق يعتمد على نوع الفقع الصحراوي وربما على الظروف التي نبتت فيها. غير أن أديسون قال لي إن تجربته الأولى كانت مخيبة أيضاً أول مرة. لكنه أصاب قدراً أكبر من النجاح مع طبق عماني كثير البهارات يسمى "كمبا مقشّد" وآخر إماراتي يسمى "صالونا" أو "لحم مرق". وهذا الطبق الأخير يتكون من لحم الغنم المسلوق مع البهارات على نار هادئة جداً لمدة ساعة ونصف. حينها يصبح لون الفقع بني مُحْمَرْ ويكتسب نكهة فطر قوية.

في البحرين لديهم طبق يسمونه عيش الفقعة وهو كمأ بالرز. وفي السعودية يزيدون على ذلك بطبق مطبوخ مع البيض. في لبنان ينظفون الكمأ تنظيفاً دقيقاً وينقعونه بالزيت والليمون والثوم ثم يشوونه ليصبح كمأ مشوي.

أما فيني فلديه وصفة شوربة الكمأ الصحراوي بالقشطة وهي كما يقول متعة الذواقة.

وإلى جانب الكمأ الذي ينبت تحت الأرض، توجد في الصحراء بضع أنواع قليلة جداً من المشروم العادي الذي ينمو فوق الأرض، ولدي صور لأكثر من 20 نوعاً منها وعلى حد علمي لم يتم تحديد نوع أي من هذه الفطور ولا يعرف شيء عن كونها صالحة للأكل أو لا.

والمشكلة هي أنه حتى يمكن تحديد نوع فطر المشروم، يحتاج المرء لعينات عن الفطر وهو في مراحل تطوره الأولى ثم في مرحلة النضج ثم وهو في مرحلة متقدمة إضافة إلى نموذج توزع الأبواغ التي تجمع من العينات الناضجة. غير أن مشروم الصحراء ينمو منفرداً في أغلب الأحوال وبشكل متباعد زمنياً ومكانياً على نحو يجعل جمع العينات كما سبق ذكره أمراً مستحيلاً وفي حالات نادرة يمكن تحديد نوع المشروم من عينة واحدة.

وقد كانت تلك حالة فطر شديد الغرابة يشبه تماماً مسمار الغولف. وقد عثر عليه أحد أصدقائي وسط الكثبان الرملية جنوب طريق الشارقة رأس الخيمة وظنه مسماراً صدئاً يبرز من الرمل. وكان الجزء الموجود تحت الأرض من ذلك الفطر أطول وأثخن بحوالي 30 مرة من الجزء الظاهر فوق الأرض. حين أرسلنا ذلك الفطر إلى إحدى الجامعات في المملكة المتحدة أثار استغراباً كثيراً بين الباحثين لأن وجود ذلك الفطر لم يسجل إلا في شبه القارة الهندية حتى ذلك الوقت. وهناك أيضاً عدة أنواع من المشروم الزراعي ذي السيقان الطويلة والرفيعة الذي ينمو في مجموعات. وهي تشيه فطور المروج الأوروبية التي يؤكل أكثرها كما أن هناك مشروماً نسميه "شوكولا قبلات هيرشي" لأنه يشبه تلك الحلويات الأميركية بلونها البني اللماع مثل الشوكولا وأجزائها العلوية المخروطية.

هناك أنواع من المشروم الأبيض بقلنسوات مدورة تطلق أبواغها من وسط القلنسوة وكأنها كرات من الدخان. إضافة إلى فطور المشروم البيضاء التي تشبه الهراوة وبمظهر خارجي يشبه الحراشف هذا إضافة إلى عدة أنواع أخرى بعضها ذهبية أو سوداء تنمو على أشجار الغاف وقد عثرت على فطر ضخم معجرف الشكل نبت في تربة ملحية قرب الساحل إضافة إلى فطور صغيرة ذات سيقان رفيعة ضعيفة بين الصخور في الجبال.

باستثناء المشروم الزراعي فإن أياً من الفطور التي سجلتها لا يمكن أن تكون مستوردة لأني عثرت عليها في أماكن بعيدة عن أي تدخل بشري. أتمنى أن يجعل بعض الشبان الإماراتيين المهتمين والحريصين على البيئة والمحبين للمغامرة، أن يجعلوا من الفطور في الإمارات مادة دراسية لهم.

تاريخ التسجيل : 10/07/2009

معلومات وحقائق رائعة تلك التي أعلمتنا بها أخ محمد فبارك الله فيك ونرجو أن لا يطال العمران والبناء والتوسع أراضٍ وجد فيها هذه النبتة العجيبة

ريانة عبد الله

تاريخ التسجيل : 27/07/2009

أهلا بمرورك العطر أخت ريانة وأدام الله تميزك ليرتقي المنتدى أكثر وأكثر

تاريخ التسجيل : 14/04/2009

تاريخ التسجيل : 07/04/2009

الله يعطيك العافية اخي محمد على هذه المعلومات القيمة