ولد أبو داود سنة 202هـ كما ذكرنا وتلقى العلم على علماء بلده، ثم ارتحل وطوّف بالبلاد في طلب العلم وتحصيل الرواية، فزار العراق والجزيرة والشام ومصر وكتب عن علماء هذه البلاد جميعاً. قال الخطيب: "وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين"[15].
وليس من شك في أنّ هذه الرحلات قد وسعت من افقه وأطلعته على ألوان الثقافة في عصره في كل أنحاء العالم الإسلامي.
سجستان التي كانت بلده والتي نسب إليها، وخراسان، والري[16]، وهراة[17]، والكوفة التي دخلها سنة 221هـ كما ذكر الخطيب[18]، وبغداد التي قدم إليها مرات، وآخر مرة زارها كانت سنة 271هـ، وطرسوس التي أقام بها عشرين سنة[19]، ودمشق التي سمع الحديث فيها كما يذكر ابن عساكر[20]، ومصر أيضاً، والبصرة التي انتقل إليها بطلب من الأمير أبي أحمد الموفق[21] الذي جاء إلى منزله في بغداد واستأذن عليه ورجاه أن يتخذ البصرة وطناً ليرحل إليها طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بسببه فإنه قد خربت وهُجرت وانقطع الناس عنها لما جرى عليها من فتنة الزنج[22].
وهذا الخبر يدل على أن شهرة أبي داود قد طبقت الآفاق، فالناس يعرفون له قدره وفضله وشهرته، وأحسّت الدولة بذلك فطلبت إليه أن يرحل إلى البصرة البلدة المنكوبة لتعود إليها الحياة ولتعمر من جديد. وفي هذا دلالة على طبيعة حضارتنا ومنزلة العلم والعلماء فيها، فإن سكنى مثل أبي داود فيها كان العلاج لردِّ العمران إلى بلد مخرّب مهجور. وهكذا فقد وفق الله أبا داود أن يكون شخصية علمية مرموقة في عصره كان لها أكبر الأثر على الناس في عصره والعصور التي تلت.
علمه
كان أبو داود أحد حفاظ الإسلام، وكان من أوسع العلماء معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهه وعلله ومتونه ورجاله.
ويبدو أن علماء عصره كانوا يعرفون مكانته العلمية الكبرى ويقدرونه حق قدره؛ يدل على ذلك عدد من الأخبار:
منها ما ذكروا من أنّ أحمد بن حنبل روى عنه حديثاً، وكان أبو داود شديد الاعتزاز به.
ومنها ما ذكروا من أن سهل بن عبدالله التستري جاء إلى أبي داود.
فقيل: يا أبا داود هذا سهل جاءك زائراً، فرحّب به وأجلّه.
فقال له سهل: يا أبا داود لي إليك حاجة.
قال: وما هي؟
قال: حتى تقول قد قضيتها مع الإمكان.
قال: قد قضيتها مع الإمكان.
قال: أخرج إلي لسانك الذي حدثت به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله، فأخرج إليه لسانه فقبله[23].
وكان علمه متعدد الجوانب، فهو – مع تخصصه في الحديث – فقيه عظيم، وقد عدّه الشيخ أبو الحسن الشيرازي في طبقات الفقهاء من جملة أصحاب أحمد بن حنبل، وكذا أبو يعلى في ((طبقات الحنابلة)) والعليمي في ((المنهج الأحمد))[24].
وأبو داود ناقد كبير، وليس هذا غريباً على إمام من أئمة الحديث، لأن هذا العلم يربي في أتباعه حاسة النقد، وقد استطاع أن يبلغ مستوى راقياً من رهافة الحسّ ودقة النقد، وسنرى في دارستنا لكتاب ((السنن)) نماذج من نقده العميق، ولكنني هنا أود أن أشير إلى مجال سبق إليه أبو داود ويحسب بعض الباحثين أنه جديد وأنّ الأقدمين لم يعرفوه، وذلك هو نقد الكتابة وتقدير عمرها بالنسبة إلى الحبر القديم والحديث، يدل على ذلك خبر جاء في كتاب ((الميزان)) للحافظ الذهبي وهو: (قال زكريا بن يحى الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات[25] على ظهور كتبه، فسألته عنه فقال: رأيتنا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الاصول مغيرة بخط طري؛ كانت مراسيل فاسندها وزاد فيها)[26] وتقدير العمر بالنسبة للحبر أمر يتصل بتقدير العمر بالنسبة إلى الورق ولا أستبعد أن تكون هناك حوادث من هذا القبيل في حياة صاحبنا العلمية، والله أعلم.
ومما يدل على مكانته العلمية ثناء العلماء عليه وسنذكر بعضه في الفقرة الآتية:
[b]
ثناء العلماء عليه
كان الثناء عليه من قبل المعاصرين له والذين جاؤوا من بعده مُنصباً على ناحيتين:
سعة علمه ودقة تحقيقه.
وكرم أخلاقه وتقواه.
فلقد كان – رحمه الله – مثلاً عالياً في صفتي المحدث القوي وهما العدالة والضبط.
وسنورد شذرات من أقوالهم.
1 - قال أبو بكر الخلال[27]: "أبو داود سليمان الأشعث، الإمام المقدّم في زمانه رجلٌ لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم، وبصره بمواضعها أحدٌ في زمانه، رجل ورع مقدم"[28].
2 - وقال أحمد بن محمد بن ياسين الهروي[29]: "سليمان بن الأشعث أبو داود السجزي، كان أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله وعمله وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع، كان من فرسان الحديث"[30].
3 - وقال ابراهيم الحربي[31]: "ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود النبي عليه السلام الحديد"[32].
4 - وهذه الكلمة رويت أيضاً عن أبي بكر الصغاني[33].
5 - وقال موسى بن هارون الحافظ[34]: "خلق أبو داود في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة. ما رأيت أفضل منه"[35].
6 - وقال علان بن عبدالصمد: "كان من فرسان هذا الشأن"[36].
7 - وقال أبو حاتم بن حبان[37]: "كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وحفظاً ونسكاً وورعاً وإتقاناً، جمع وصنف وذبّ عن السنن"[38].
8 - وقال أبو عبدالله بن منده[39]: "الذين أخرجوا وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم، وبعدهما أبو داود والنسائي"[40].
9 - وقال الحاكم[41]: "أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة"[42].
10 - وقال محمد بن مخلد[43]: "كان أبو داود يفي بمذاكرة مائة ألف حديث وأقرّ له أهل زمانه بالحفظ"[44].
11 - وقال ابن ماكولا[45]: "هو إمام مشهور"[46].
12 - وكان إبراهيم الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة[47] يرفعان من قدره بما لا يذكران أحداً في زمانه مثله[48].
13 - وقال الذهبي[49]: "وبلغنا أنًّ أبا داود كان من العلماء حتى إن بعض الأئمة قال: كان أبو داود يشبه أحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، وكان أحمد يشبه في ذلك وكيع، وكان وكيع يشبه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبدالله بن مسعود. وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله"[50].
ولم يرض السبكي في ((طبقاته)) أن يمضي بالسلسلة إلى نهايتها، بل اختار الوقوف عند ابن مسعود[51].
ونقل ابن العماد عن الذهبي أيضاً قوله في أبي داود: "كان رأساً في الحديث، رأساً في الفقه، ذا جلالة وحرمة وصلاح وورع حتى إنه كان يشبه بأحمد"[52].
14 - وقال ابن الجوزي[53]: "كان عالماً حافظاً عارفاً بعلل الحديث، ذا عفاف وورع وكان يشبه بأحمد بن حنبل"[54].
وسيمر بنا عند الكلام على ((السنن)) مزيد من الثناء على أبي داود وشهادات أهل العلم بفضله.
[b]
أساتذته
إن الحديث عن أساتذته لا يتسع له صدر هذا المقال لأنَّ عددهم كبير، وقد ذكر ابن حجر أن شيوخه في ((السنن)) وغيرها من كتبه نحوٌ من 300 نفس[55].
وقد ألف العلماء في شيوخه المؤلفات، وكل كتب الرجال التي تحدثت عن رجال الكتب الستة تحدثت عن أساتذة أبي داود وسنورد أسماء بعضهم فيما يلي.
فمنهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، واسحاق بن راهويه، وأبو عمرو الحوضي، ومسلم بن ابراهيم، وسليمان بن حرب، وأبو الوليد الطيالسي، وموسى بن اسماعيل المنقري التبوذكي، وعبدالله بن مسلمة القضبي، وهناد بن السري، ومخلد بن خالد، وقتيبة بن سعيد، ومسدّد بن مسرهد، ومحمد بن بشار، وزهير بن حرب، ومحمد بن المثنى، وعمرو بن محمد الناقد، وسعيد ابن منصور، وحميد بن مسعدة، وحفص بن عمر وهو أبو عمر الضرير[56]، وتميم بن المنتصر، وحامد بن يحيى، وإسحاق بن إسماعيل الطالقاني.
ولن نستطيع أن نترجم لهؤلاء جميعاً وقد تعمدت أن أذكر المشهورين لتغني شهرتهم عن التعريف بهم.
وليس غريباً أن يكون عدد من أساتذته عمالقة علماء أفذاذاً لأن طبيعة العصر الذي كان فيه أبو داود تقتضي أن يكون هناك نماذج من هذا النوع، كما سبق أن أشرت إلى ذلك عند حديثي عن عصره. وكثرة الأساتذة أمر معروف معهود في تاريخنا الفكري[57].
وينبغي أن نخص واحداً من اساتذته بإشارة لابدَّ منها وهو الامام أحمد بن حنبل، فقط تكرر ذكره كثيراً في اخبار أبي داود، وقد اتصل به ورافقه، وعَرَض عليه ((سننه)) فاستجادها، وكان يسأله أبو داود كثيراً عن أمور الدين وشؤون الحديث، وقد بلغ من اهتمام أبي داود بأجوبة شيخه أحمد أنْ ألّف كتاباً جمع فيه الأسئلة التي ألقيت على الإمام أحمد وأجوبته عليها. وقد طبع هذا الكتاب بعنوان ((مسائل أحمد)).
وذكر العلماء في ترجمة أبي داود كثيراً من هذه الأسئلة التي كان أبو داود نفسه يتوجه بها إلى الإمام أحمد، أو الأسئلة التي كانت تطرح عليه بحضوره. فمن ذلك ما ذكره أبو يعلى أن أبا داود قال:
سمعت أحمد سئل عن القراءة في فاتحة الكتاب: (مَلِك) أو (مالكِ)؟ يعني: أيهما أحب إليك؟ قال: (مالك) أكثر ما جاء في الحديث[58] فهذا سؤال سمعه فحفظه ورواه.
ونجده يصرح أحياناً بأنه هو الذي سأل الإمام أحمد كما في المثال الآتي:
قال أبو داود: قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه؟
قال: لا، أو تُعلَمهُ أنَّ الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة. فإن ترك كلامه فكلّمه، وإلاّ فألحقه به.
قال ابن مسعود: ((المرء بخدنه))[59].
وكثيراً ما يذكر في كتابه ((السنن)) مثل هذه الأسئلة التي كان يتوجه بها الإمام أحمد[60].
وقد ينقل قوله دون أن يكون هذا القول جواباً لسؤال سائل كما ذكر أبو يعلى:
قال أبو داود: سمعت أبا عبدالله يقول: من قال إنّ الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر[61].
وهذا كثير الورود في ((السنن)) أيضاً.
ويظهر أن إعجابه البالغ بأحمد وحُبّه الكبير له كان يحمله على أن يتشبّه به حتى رأينا بعض العلماء يذكر تشبهه بأحمد، وهذا مشاهد عند الطلبة المعجبين بأستاذهم، فتراهم يقلدونه حتى في نبرات صوته وسلوكه ومظهره.
[b]
تلاميذه
روى عنه خلقٌ كثير من العلماء الأئمة؛ نذكر المشهورين منهم، من أمثال الامام أحمد بن حنبل الذي روى عنه حديثاً واحداً كان أبو داود يعتزُّ بذلك جداً[62].
ومنهم الامام أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، والامام أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي، والامام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، ومنهم اسماعيل بن محمد الصفار، وأبو بكر بن داود الأصفهاني، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وأبو عوانة الاسفراييني، وزكريا الساحبي، وأبو بشر محمد بن أحمد الدولابي، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو بكر محمد يحيى الصولي.
ومن تلامذته رواة السنن عنه وعددهم تسعة ذكر الذهبي[63] والسبكي[64] سبعة منهم. وزاد ابن حجر راويين هما أبو الطيب أحمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن الأشناني، وأبو عيسى اسحاق بن موسى بن سعيد الرملي ورَّاقه. أما الرواة السبعة الذين ذكرتهم معظم المصادر فهم:
– أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي.
– وأبو بكر محمد بن بكر بن عبدالرزاق بن داسة التمار.
– وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي.
– وأبو الحسن علي بن الحسن بن العبد الأنصاري.
– وأبو أسامة محمد بن عبدالملك الرؤامي.
– وأبو سالم محمد بن سعيد الجلودي.
– وأبو عمرو أحمد بن علي بن الحسن البصري.
[b]
وضعه الاجتماعي والمنزلي
كان الرجل يتمتع بمنزلة اجتماعية مرموقة، وقد اكتسب شهرة قليلة النظير، وشاع كتابه في حياته، وكان الطلبة يؤمّون منزله من كل مكان.
وكانت له مخالطة طيبة للعلماء في كل الأمصار، ويكفينا في الدلالة على ذلك ما ذكرناه في مبحث أساتذته، كما كانت له صلة قائمة على الاحترام مع الحكام، ويكفينا في الدلالة على ذلك أن يقوم رجل الدولة الأول الموفق بزيارته وأن يطلب منه ما يطلب لعمارة البصرة كما أشرنا. وكان الرجل متزوجاً وله أولاد من أشهرهم ابنه عبدالله.
ويبدو أنه كان حريصاً على أن يطلب أولاده العلم في وقت مبكر، ولذلك فقد كان يأخذهم معه ليحضروا مجالس العلم وليسمعوا.
نقل ياقوت عن ابن عساكر خبراً يرويه عن الحسن بن بندار قال: (كان أحمد بن صالح[65] يمتنع على المرد من رواية الحديث لهم تعففاً وتنزهاً ونفياً للمظنة عن نفسه. وكان أبو داود يحضر مجلسه ويسمع منه، وكان له ابنٌ أمرد يحبُّ أن يسمع حديثه، وعرف عادته في الامتناع عليه من الرواية، فاحتال أبو داود بأن شدّ على ذقن ابنه قطعة من الشعر ليتوهم أنه ملتحٍ، ثم احضره المجلس وأسمعه جزءاً.
فأخبر الشيخ بذلك، فقال لأبي داود: أمثلي يعمل معه هذا؟
فقال له: أيها الشيخ لا تنكر عليَّ ما فعلته واجمع أمردي هذا مع شيوخ الفقهاء والرواة فإن لم يقاومهم بمعرفته فاحرمه حينئذٍ من السماع عليك.
قال: فاجتمع طائفة من الشيوخ، فتعرض لهم هذا الأمرد مطارحاً، وغلب الجميع بفهمه، ولم يرو له الشيخ مع ذلك من حديثه شيئاً. وحصل له ذلك الجزء الأول)[66].
وذكروا في بعض أخباره ما ينبئ عن اتخاذه بعض الخدم، ومنهم أبو بكر بن جابر خادمه الذي روى حديث مقابلة الموفق له[67].
[b]
أخلاقه وصفاته
كان أبو داود رجلاً كبيراً ذا خلق كريم. كان صالحاً عابداً ورعاً، وكان ذكياً مجداً دؤوباً كثير الاحتمال لمشاق الارتحال وطلب العلم، وكان يقظاً شديد الانتباه يعرف الناس على حقيقتهم ولا تنطلي عليه وسائل الخداع، وكان أبياً كريم النفس، وكان جريئاً في الحق أميناً على رسالة العلم قائماً بحق الدين. وسأورد فيما يلي أخباراً تدل على صراحته في الحق وجرأته في قوله، لا يخاف في ذلك لومة لائم، وسيمر بنا أيضاً في دراسة ((السنن)) أمثلة عديدة على ذلك في موضوع جرح الرجال.
وقد خصصت هذا الخلق بالبيان لأنه الخلق الذي اعتقد أنه من أهم صفات العلماء، ولأنّ الناس يعانون الكثير من فقد هذا الخلق في حياتهم وعند نفر من العلماء، ويشهدون كم تجر المجاملة التي يتصف بها كثير من الناس من الويلات على الدين والعلم والحق.
والعلماء يمثلون القيادة الفكرية للأمة، والقوة الموجهة التي تحول بين الجماهير والانحراف والفساد، فإذا فقدوا فضيلة الصراحة في الحق والجرأة في القاء الكلمة المؤمنة الصادقة كان إيذاء ذلك شديداً.
وكانت عاقبة ذلك دماراً للأمة ولكل معاني الخير فيها.
فمن أجل ذلك رأيت أن أضرب بعض الأمثلة على أصالة هذا الخلق العظيم في سيرة هذا الإمام العظيم: ذكر أبو يعلى (أنّ محمد بن علي الآجري قال:
قلت لأبي داود: أيهما أعلى عندك: علي بن الجعد أو عمرو بن مرزوق؟
قال: عمروٌ أعلى عندنا. عليُّ بن الجعد وُسِمَ بميسم سوء قال: ((وما يسؤوني أن يعذب الله معاوية)) وقال: ((ابن عمر ذاك الصبي)) )[68].
فأبو داود يعلن رأيه بصراحة، ويجرح علي بن الجعد ويذكر سبب الجرح وهو وقوعه في الصحابة، إذ أن كلمته في معاوية تدل على شيء من الكراهية لبعض الصحابة أو عدم اهتمام على أقل تقدير، وذلك عندما يقرر أنه لا يسؤوه أن يعذب الله معاوية رضي الله عنه، وكذلك فإنّ قوله عن ابن عمر إنه صبي فيه ما يدل على قلة احترام للصحابة وعلى التهوين من شأنهم.
ومن الأمثلة الرائعة على جرأته في الحق ومواجهته الحكام بما يعتقد سواء وافق رغبتهم أم لم يوافق ما رواه خادمه أبو بكر بن جابر الذي قال:
كنت معه ببغداد، فصلينا المغرب إذ قرع الباب، ففتحتُه فإذا خادم يقول: هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن. فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه، فإذن له، فدخل، وقعد، ثم أقبل عليه أبو داود وقال:
– ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟
– فقال: خلال ثلاث.
– فقال: وما هي؟
– قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطناً ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قد خربت، وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج.
– فقال: هذه واحدة. هات الثانية.
– قال: وتروي لأولادي كتاب ((السنن))؟
– قال: نعم. هات الثالثة.
قال: وتفرد لهم مجلساً للرواية، فإنَّ أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة.
فقال: أما هذه فلا سبيل إليها، لأنَّ الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
قال ابن جابر: فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون وبينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة[69].
ومن الأمثلة التي تدل على جرأته وقوله الحق دون مراعاة لقرابة أو صلة موقفه من ابن أبي بكر عبدالله صاحب التصانيف.
فقد قال عنه: ((ابني عبدالله كذَّابٌ))[70].
[b]
طلابه
يبدو أنّ الرجل كان يخترع في كيفية خياطة الملابس ما يتلاءم وحياته، فهو قد وقف نفسه على العلم، فكل ما يساعده من اللباس على حمل الكتب واصطحابها فهو اللباس الجيد، لأن العلم أضحى عنده كل شيء؛ ذكروا أنه كان له كم واسع وضيق، ولما سئل قال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج إليه[71].
وما سأله السائل عنه إلا لأنه شيء غريب لم يؤلف.
[b]
أقواله
كان الرجل حكيماً، وليس ذلك بمستغرب على من اجتمعت فيه هذه الأوصاف التي أشرنا إليها آنفاً، وصاحب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جدير بأن تفيض الحكمة على لسانه.
وقد ذكرت الكتب التي ترجمت له بعض هذه الجمل المأثورة الجميلة. فمن ذلك قوله: الشهوة الخفية حب الرئاسة"[72].
وقوله: "خير الكلام ما دخل الأذن بدون أذن"[73].
وقوله: "من اقتصر على لباس دونٍ ومطعم دونٍ اراح جسده"[74].
وهذه الأقوال وغيرها مما يدل على حكمة رصينة انتهى إليها المؤلف بعد علم ونظر وتمرس بالحياة الفاضلة.
ومما يدل على سيرته وعلى بصره بالعلم العملي وفقهه الحق في الدين قوله متحدثاً عن كتابه السنن (جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائه حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه. ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أحاديث أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: (([b]الاعمال بالنيات)).
وقوله صلى الله عليه وسلم ((من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
والثالث قوله صلى الله عليه وسلم ((لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه)).
والرابع قوله صلى الله عليه وسلم ((الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات))[75].
وفاته
توفى أبو داود رحمه الله يوم الجمعة 15 شوال من سنة 275هـ بالبصرة، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري بعد أن قدّم خدمات جليلة لدينه وأمته وللثقافة الاسلامية.
[b]
كتبه:
1 - المراسيل:
وقد طبع في القاهرة سنة 1310هـ.
ومخطوطاته موجودة في تركيا ومصر وغيرهما، وقد ذكرها سزكين في ((تاريخ التراث العربي))[76].
2 - مسائل الامام أحمد:
وهي مرتبة على أبواب الفقه، يذكر فيها أبو داود السؤال الموجّه لأحمد وجوابه عليها، وهو كتاب جليل من الناحية الفقهية ينقل لنا بدقة وأمانة آراء الامام أحمد بن حنبل، وطبع في القاهرة بتحقيق السيد رشيد رضا، وأعيد تصويره في بيروت مؤخراً.
وقد ذكرته معظم الكتب التي ترجمت لأبي داود أو عنيت باحصاء تراثنا الاسلامي[77] وذكر ابن حجر ان أبا عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري الحافظ هو راوي المسائل عنه[78].
3 - الناسخ والمنسوخ:
ذكر ابن حجر أن راوي هذا الكتاب عنه[79] أبو بكر أحمد بن سليمان النجار. ونقل السيوطي عن هذا الكتاب[80] وذكره اسماعيل البغدادي بعنوان ((ناسخ القرآن ومنسوخه))[81].
4 - إجاباته عن سؤالات أبي عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري:
قال ابن كثير: ولأبي عبيد الآجري عنه ((أسئلة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل)) كتاب مفيد[82] وذكرها سزكين بعنوان: ((سؤالات أجاب عنها أبو داود في معرفة الرجال وجرحهم وتعديلهم)) وذكر أنها موجودة في كوبريلي وباريس[83]. وذكر أن ابن حجر استخدم هذه الرسالة كثيراً في ((تهذيب التهذيب))[84].
5 - رسالته في وصف كتاب ((السنن)):
وحققتها ونشرتها في مجلة أضواء الشريعة في الرياض العدد الخامس سنه 1394هـ ثم نشرتها مفردة دار العربية في بيروت، وقد سبق أن نشرت في مصر سنة 1369هـ ومخطوطتها في المكتبة الظاهرية في دمشق[85].
6 - كتاب الزهد:
وتوجد منه نسخة بالقرويين بفاس كما أشار إلى ذلك الأستاذ سزكين[86].
7 - تسمية الاخوة الذين روي عنهم الحديث:
وهي رسالة من ثماني ورقات محفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق، وهي من رواية السّلفي، ومكتوبة بخط مغربي كما ذكر ذلك الأستاذ ناصر الدين الألباني[87] وذكر الأستاذ أكرم العمري هذه الرسالة بعنوان ((تسمية الأخوة من أهل الأمصال)) وقال: "وقد استفاد أبو داود في تصنيف رسالته ((تسمية الأخوة)) مما قرأه في كتاب علي بن المديني بخطه، كما استفاد من طريقته في تنظيم المادة، فنجده يرتب الاخوة الذين روي عنهم الحديث على المدن، وقد اكتفى أبو داود بتجريد الأسماء ولم يقتصر على ذكر الصحابة، بل ذكر من تلاهم أيضاً"[88].
وذكر الاستاذ العمري في تعليقه في الصفحة نفسها[89] أن الرسالة تقع في 7 ورقات وأن الورقة 24 سطراً وأنها مكتوبة بخط ناعم، وذكر سزكين أنها مكتوبة في القرن السادس الهجري[90].
8 - أسئلة لأحمد بن حنبل عن الرواة والثقات والضعفاء:
قال الأستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: "رتبت أسماؤهم على أسماء بلادهم، ثقات مكة، ثقات المدينة...، وينتهي بضعفاء المدينة"[91].
وهي نسخة ناقصة من أولها، وموجودة في الظاهرية[92].
9 - كتاب القدر:
وذكر ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) باسم ((الردّ على أهل القدر)) وذكر أن راوي هذا الكتاب عنه أبو عبدالله محمد بن أحمد بن يعقوب المتوثي البصري[93].
وقال سزكين: اقتبس منه ابن حجر في كتابه ((الاصابة))[94].
10 - كتاب البعث والنشور:
ذكره بروكلمان وذكر أنه موجود في دمشق[95].
11 - المسائل التي حلف عليها الامام أحمد:
ذكره سزكين وقال: إنه موجود في دمشق[96].
12 - دلائل النبوة:
ذكره إسماعيل البغدادي[97] وابن حجر في ((تهذيب التهذيب))[98].
13 - التفرد في السنن:
ذكره اسماعيل البغدادي[99].
14 - فضائل الأنصار:
ذكره ابن حجر في مقدمة كتابه ((تقريب التهذيب))[100].
15 - مسند مالك:
ذكره ابن حجر في مقدمة كتابه ((تقريب التهذيب))[101].
16 - الدعاء: ذكره ابن حجر في مقدمة ((تهذيب التهذيب))[102].
17 - ابتداء: ذكره ابن حجر في مقدمة ((تهذيب التهذيب)).
18 - أخبار الخوارج: ذكره ابن حجر في مقدمة ((تهذيب التهذيب)).
[/b][/b][/b][/b][/b][/b][/b][/b][/b]