علم المعاني : مقدمـة
علم المعاني هو تطبيق عملي لفكرة النظم التي شرح بها عبدالقاهر الجرجاني رحمه الله إعجاز القرآن الكريم، والتي عرف النظم فيها بقوله: اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها(1)
يعني عبدالقاهر بالنظم تعليق الكلام بعضه على بعض ويقول: (إنه توخي معاني النحو) .. نقرأ في علم النحو مثلا أن الفعل لا بد له من فاعل وقد نرى الخبر يتقدم على المبتدأ، والمفعول يتقدم على الفعل، وحينما نبحث عن سر هذا التقديم فإنا نجد أن الأمر ليس جزافا، ولا بد من غرض وسبب من أجله كان هذا التقديم للخبر على مبتدئه، وللمفعول على فعله، لذلك يرى عبدالقاهر رحمه الله أننا حينما ننطق بأي جملة، ونركبها من كلماتها، فإن هذا التركيب ناشئ ـ أولا وقبل كل شيء ـ عن المعنى الذي هيأناه في نفوسنا ، وأردنا أن نعبر عنه بهذه الألفاظ
النظم إذن لا بد له من أمرين اثنين: المعنى الذي نريد التحدث عنه، ثم اللفظ الذي نعبر عن هذا المعنى، فإذا اختلف المعنى الذي نريد التعبير عنه، فلا بد أن يختلف اللفظ حتى إن كانت مادته واحدة (2)
مثال: قد نتجاذب الحديث معا فيرى بعضنا أن المتنبي كان حكيما، وليس حريا أن يوصف بأنه شاعر، فأقول معبرا عن المعنى الذي في نفسي: إنما المتنبي شاعر
وقد نتجاذب أطراف الحديث مرة أخرى فبعضنا يرى أن أبا تمام أشعر من المتنبي، وبعضنا الآخر يرى أن ابن الرومي أشعر منهما، ولكني أرى عكس ذلك فقد ثبت في نفسي أن المتنبي أشعر منهما فأعبر عن هذا المعنى فأقول: إنما الشاعر المتنبي (3)
تغيير في ترتيب الألفاظ مع تعريف أحدهما ، المعنى مختلف تبعا لاختلاف الموقف الذي قيلت فيه كل جملة واختلاف المعنى الكامن في النفس، فجاءت الألفاظ حاملة هذا المعنى بالشكل الذي يناسبه
(النظم إذن أن يكون ترتيب الكلام وأنت تنطق به قد صمم تصميما تاما ليوافق المعاني التي تريد أن تعبر عنها) (4)
فهذه العبارات مثلا (طلع القمر ـ ما طلع القمر ـ ما طالع القمر) يقول عنها النحوي: كلها جائزة ولكل منها عندي تخريج إعرابي
لكن البلاغي يرى لكل منها حالة خاصة وموقفا معينا اقتضى صياغتها على هذه الطريقة (5)
التعريف:
من تعريفات العلماء لعلم المعاني وكلها ذات معنى متقارب
** (هو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال) (6) الإيضاح
** هو علم يعرف به أحوال الكلام العربي التي تهدي العالم بها إلى اختيار ما يطابق منها مقتضى أحوال المخاطبين رجاء أن يكون ما ينشئ من كلام أدبي بليغا (7)
حبنكة 1/ 138
** علم نظم الألفاظ والعبارات على أسلوب معين يراعى فيه أمران هما: قواعد النحو ومطابقة الكلام لمقتضى الحال (8)
وليد 15
نستفيد من علم المعاني أمرا مهما هو أنه (لا ترادف بين الجمل: بل لكل ترتيب دلالة خاصة، وفيه معنى ليس في الآخر، وإن أي تغيير يطرأ على التركيب بتقديم أو تأخير، او حذف أو ذكر، أو تأكيد أو تركه..الخ يؤدي إلى تغيير في معناه) (9)
وليد 17
مكانة علم المعاني بين العلوم
أما مكانته بين العلوم الأخرى فهيأنه ألصقها بالقرآن الكريم وبه عُرف إعجازه.. بل هو علم يشتمل على سائر العلوم وليس بالضرورة أن يشتمل عليه علم النحو أو الصرف أو البديع مثلا، فلا يعتد فيه بكلام لم يراعَ فيه الوجه الصحيح لبناء الكلمة في الصرف، ولا بكلام نُصب فيه ما حقه الرفع، ولا بصورة بديع لم يحسن صاحبها التأتي إليها
إن ثمرة هذا العلم هو الوقوف على الأسرار التي يرتفع بها شأن الكلام ويفضل بعضه بعضا، ومعرفة إعجاز القرآن من جهة ما خصه الله بم من حسن الوصف ولطف الإيجاز وجودة السبك وبراعة التراكيب وجزالة الكلمات وعذوبة الألفاظ ومحاسن الكلام، والوقوف على بديع القول وأسرار البلاغة وأسباب الفصاحة وغير ذلك(10)
------
1 ـ البلاغة من منابعها (علم المعاني ) محمد هيثم غرة ـ ص 18
2 ـ البلاغة فنونها وأفنانها (علم المعاني) ص 85
3 ـ انظر: البلاغة فنونها وأفنانها من 86 إلى 88
4 ـ البلاغة فنونها وأفنانها 87
5 ـ انظر البلاغة العربية للشيخ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني 1 / 145ـ 146
6 ـ الإيضاح للقزويني
7 ـ البلاغة العربية للميداني 1 / 138
8 ـ البلاغة العربية (علم المعاني) وليد قصاب ـ ص 15
9 ـ البلاغة العربية لقصاب 17
10 ـ البلاغة من منابعها ص 23