ليس أمر الفتيا بالشيء اليسير لقد كان الصحابة وهم خير الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم كانوا يتدافعون الفتوى كل واحد منهم يتمنى لو أنّ أخاه كفاه. وعندما ننظر في حال كثير من الناس نجد أن لديهم عجلة الى الفتيا فيفتي بدون أن يُسأل، وكثير من هؤلاء ليس أهلاً للفتيا ولكن نتيجة استخفافه وجهله بخطورة أمرها قال ما قال. فيهرف بما لا يعرف ويهذي بما لا يدري «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ»
وقد شّدد الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر وبين أن جزاء من عمله النار فقال: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، وقال: «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار». كما حذّر من ذلك وأكد أن الجاهل عندما يتصدر للإفتاء فانه يوقع نفسه في الضلال ويضل غيره فتقع الفتنة ويسير الناس على غير هدى. فقال: «ان الله لا ينتزع العلم انتزاعاً وإنما ينتزعه بقبض العلماء فإذا كان ذلك اتخذ الناس رؤساء جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»، وما دام أن الأمر يبلغ الى هذا الحد من الافتراء على شريعة الله والتهاون بها، وتجاوز كل حدودها وقيودها، وعدم الالتزام بمبادئها ومنهجها فلاشك أن هناك أسباباً تدفع بعض الناس وخصوصاً أنصاف المتعلمين إلى الوقوع في هذا المحذور بدون تعّرف على الخلفيات الضارة السلبية التي تتمخض عنه، ولعلنا بشكل مركز وموجز نبين هذه الأسباب:
1_عدم وجود الوازع والرادع الديني والعقلي
2_ قلة العلم، فالإنسان إذا لم يكن لديه من العلم ما يحصنه، ويكون حامياً لـه من الوقوع في هذا المسلك، فانه يتجرأ على الفتيا والخوض في مسائل كبار لا يقدر عليها إلا فحول العلماء بل إنهم قد يترددون في الحكم عليها ويدفعونها إلى غيرهم.
ثالثاً: استعجال الشيء قبل أوانه فينطبق عليه قول القائل تزبّب قبل أن يتحصرم » فتكون نتيجة عمله هذا ما ذكره القائل في قوله: «من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه»، ومعلوم أنّ العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك.
رابعاً: الحرص على الشهرة والسمعة عند الناس وبينهم، فتجده يحرص على أن يسألوه ويضعوا لـه المكانة التي لا يستحقها، الأمر الذي معه تنفتح مداخل شياطين الإنس والجن عليه فيصورون لـه نفسه أنه العلم العلامة، والحبر الفهامة الحافظ، صاحب الحجة والبرهان، المجاهد الذي يتوقف إصلاح وصلاح المجتمعات عليه، فيغر ويغتر، ويصبح ليس لـه هم إلا ماذا قال الناس؟ وما الذي يريدونه؟ وما أسهل الطرق إلى الشهرة؟ فيضل ويضل ويزل ويزل، وتقع مخالفات دينية ودنيوية لا تحمد عقباها ولا يستفيد منها في النهاية إلا أعداء الإسلام .
ولكن لكل داء دواء يستطب به، ولكل مشكلة حل وعلاج، وعلاج هذه الظاهرة يكمن في أمور يسيرة على من يسرها الله عليه هي:
1_الاخلاص لله عز وجل في طلبه للعلم بحيث لا يكون همه التفاخر والاستعلاء والجدال والمماراة والرد على غيره ونحو ذلك بل يقصد بعلمه رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول ابن مسعود رضي الله عنه : «لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان» يقول هذا وهو أحد صحابة رسول الله فما بالنا بمن جاء بعدهم.
2 ـ أن تكون النصوص المحذّرة من الجرأة على الفتوى، والقول على الله بغير علم نصب عينيه في جميع أوقاته وكل أحواله لتكون حصناً حصيناً له من الولوج في ما لا يعود عليه وعلى مجتمعه ودينه إلا بالضرر.
3 ـ أن يأخذ العلم عمن يثق به من العلماء المشهود لهم بالتقوى والصلاح والفقه والفهم والبصيرة والحكمة.
4 ـ الحرص على تعلم الأصول والمتون وحفظها وفي مقدمتها كتاب الله وسنة رسوله وإدراكها إدراكاً جيداً قبل الفروع لأن من حُـــرم الأصول حرم الفروع ولا تنال الفنون إلا بحفظ المتون.
5 ـ عدم التصدر للتدريس والتوجيه والفتوى إلا بعد التعمق والتمرس والتجربة في مجالات العلم المتعددة لتكون أقوال الإنسان دقيقة وقريبة من الصواب ومبنية على الأدلة الواضحة والصريحة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم قبله يتدافعون الفتوى براءة لذمة وورعاً من الوقوع في المحظور.
6 ـ التحلي بالآداب والأخلاق االإسلامية التي تستلزم الاحترام والتقدير لجميع أفراد المجتمع وبالأخص أصحاب الفضل، ومن لهم قيادة وريادة دينية أو دنيوية.
7 ـ الابتعاد عن الغرور والاعتداد بالنفس وعدم الدخول في أمور لا تحمد عقباها لأن من كان كذلك هان في أعين الناس فبالتالي يبتعدون عنه ولا يستفيدون مما لديه من العلم
ولما ُسئل أبو بكر رضي الله عنه عن شيء من تفسير القرآن لا يعلمه فقال:«أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله بغير علم»، وكان يجمع الصحابة ليسألهم عن حكم واقعة لا يعرف فيها حكم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كما في ميراث الجدة وغيرها
وكذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه من بعده يفعل هذا كثيراً، وقال ابن مسعود: يا أيها الناس من ُسئل عن علم يعلمه فليقل به ، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم، فان من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم.
وهذا الشعبي كان في نفر من تلاميذه فسأله رجل عن مسألة فقال: لا أحسنها وعندما ولّي الرجل قال تلاميذه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستح وقالت: « لاَ عِلْمَ لَنَا إلا مَا عَلَّمْتَنَا». وجاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله جئتك من مسافة بعيدة في مسألة حملني إياها أهل بلدي، قال: فقل، فسأله، فقال: لا أحسنها، فبهت الرجل وقال: ماذا أقول لأهل بلدي إذا رجعتُ إليهم ؟؟ ، قال: تقول لهم: قال مالك لا أدري.
هذا المقال مختصر من مقال كبير ونافع من جريدة الشرق الأوسط حيث قاموا بإجراء لقاءات مع عدد من العلماء
والسماع لهم حول الجرأة على الفتيا بغير علم وخطرها وأسبابها وعلاجها
وأخيراً جزاك الله خيراً دكتور وبارك الله فيك وجعل ما كتبت في ميزان حسناتك