إنّ الإسلام لم يعتبر المرأة جرثومة خبيثة كما اعتبرها الآخرون، ولكنه قرر حقيقة تزيل هذا الهوان عنها، وهي أن المرأة بين يدي الإسلام قسيمة الرجل، لها ما له من الحقوق وعليها أيضاً من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها، وعلى الرجل بما اختص به من شرف الرجولة، وقوة الجلد، وبسطة واتساع الحيلة، أن يلي رياستها، فهو بذلك وليها، يحوطها بقوته، ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسب يده، ذلك ما أجمله الله، وضم أطرافه، وجمع حواشيه، بقوله تباركت آياته: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ سورة البقرة: (228).
تلك هي درجة الرعاية والحياطة، لا يتجاوزها إلى قهر النفس، وجحود الحق.. ولئن قرن الإسلام بين الرجل والمرأة في عامة المواطن، فلقد عرف لها نصيبها من رقة القلب، ودقة الوجدان، وأنها مناط شرف الرجل، وموطن عرضه، فاختصها بنصيب من الحرمة والكرامة لم يظفر بمثله نظراؤها من الرجال.
إن كرامة المرأة في الإسلام تتناول شخصها وسيرتها، وتشمل مشهدها ومغيبها، فمن حقها أن تكون في موطن الرعاية والعناية، وأن يكون اسمها بمنجاة من لغو القول، ومنال اللسان2.
ومما يدل على احترام الإسلام للمرأة ورعاية حقوقها مسألة نكاح المرأة واختيارها في ذلك: فقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه وقال: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، ثم أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)، قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت)3.
وحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: رضاها صمتها)4.
وقد شرح الحافظ ابن حجر هذه الأحاديث ذاكراً أقوال أهل العلم والأئمة في حكم إجبار النساء على الزواج
فيتضح من كلام الحافظ رحمه الله تعالى: أنه لا ولاية إجبار على المرأة سوى ( الصغيرة) حيث إنها لا عبارة لها... وقد بوب البخاري رحمه الله تعالى باباً آخر فقال: باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود.
وقد ذكر الفقهاء هذه المسألة واختلفوا فيها. قال الشيخ: د/ عبد الكريم زيدان في كتابه المفصل في أحكام المرأة:القول الراجح في تزويج البالغة البكر:والراجح من أقوال الفقهاء في مسألة تزويج البالغة العاقلة البكر وهو ما يأتي:
أ- لا ولاية إجبار لأحد على البالغة العاقلة البكر، فلا يجوز لوليها أباً كان أوغيره أن يزوجها إلا بإذنها ورضاها.
ب- إذا زوجها الولي _دون_ رضاها فالنكاح مفسوخ إلا إذا أجازته.
ج- لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها بنفسها إلا إذا أذن لها الولي، فإن أَذِن فعبارتها صالحة لإنشاء عقد النكاح، وإن لم يأذن وعقدت النكاح لنفسها فنكاحها باطل.
د- إذا عضلها الولي ولم يأذن لها بتزويج نفسها ولا بأن يزوجها بالكفؤ راجعت القاضي لرفع الظلم عنها.
قال: ونذكر فيما يلي الأدلة على ترجيح ما رجحناه: ثم ذكر زيدان الحديث السابق ذكره الذي رواه البخاري وترجمة البخاري لذلك الحديث بقوله: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، ونقل كذلك كلام الحافظ بن حجر في شرح ذلك الحديث قال: وأخرج هذا الحديث أيضاً مسلم في صحيحه كما أنه أخرجه بروايات أخرى منها:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها) وفي رواية أخرى لمسلمالثيب أحق بنفسها من وليها) والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها).
وأخرج هذا الحديث برواية البخاري، وبروايات مسلم وأصحاب السنن: أبودواد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كما أخرجه الدارمي والبيهقي.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله بعد أن ذكر أحاديث استئذان البكر قبل تزويجها وظاهر أحاديث الباب، أن البكر البالغة إذا زوجت بغير إذنها لم يصح العقد).
ومعنى ذلك:أن الولي ليست له ولاية إجبار على البالغة البكر وأنه لا يزوجها إلا بإذنها، ولهذا إذا زوجها لم يصح عقد النكاح.
ثانياً: الأدلة على أن تزويج الولي البالغة البكر دون إذنها مفسوخ إلا أن تجيز:
1- أخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن جاريةً بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في شرحه: في الحديث دلالة على تحريم الإجبار للأب لابنته البكر على النكاح، وغيره من الأولياء بالأولى11. وجاء في كتاب (سبل السلام) في شرح هذا الحديث: وقد تقدم حديث أبي هريرة المتفق عليه وفيه: ولا تنكح البكر حتى تستأذن) وهذا الحديث أفاد ما أفاده، فدل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح، وغيره من الأولياء بالأولى، ثم قال صاحب(سبل السلام) وهو يشرح هذا الحديث: وقال البيهقي: حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كفؤ. قال صاحب سبل السلام تأويل البيهقي لا دليل عليه، فلو كان كما قال لذكرته المرأة، بل قالت: إنه زوجها وهي كارهة فالعلة كراهيتها، وعليها علق التخيير فأينما وجدت الكراهة في تزويج الولي البالغة العاقلة البكر ثبت الحكم وهو التخيير
2_ أخرج النسائي في سننه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: إن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، فقالت عائشة: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله: قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم النساء.
وقال صاحب(سبل السلام) في تعليقه على هذه الحديث الشريف: والظاهر أنها بكر، ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوجها أبوها كفؤاً: هو ابن أخيه. وإن كانت ثيباً، فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء أنه ليس للآباء من الأمر شيء عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه. والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي التزوج للكراهة لأن السياق في ذلك فلا يقال هو لكل شيء14.
قال الشيخ زيدان: دلالة الأحاديث على ما رجحناه: وواضح من هذه الأحاديث النبوية الشريفة أن الأب إذا زوج ابنته البالغة البكر بدون إذنها ورضاها فالنكاح مفسوخ إلا إذا أجازته.
وقد يقال: ليس في هذا الحديث برواياته المختلفة تصريح بأن الجارية التي زوجها أبوها وهي كارهة كانت بكراً، أليس من الجائز أن تكون ثيباً؟ وبالتالي لا يكون في هذا الحديث دلالة على ما رجحناه من أن البالغة البكر لابد من إذنها لصحة تزويجها من قبل الولي؟ والجواب أن يقال: وأيضاً ليس في الحديث صراحة على أن الجارية التي زوجها أبوها كانت ثيباً، هذه واحدة، والثانية: أن شراح هذا الحديث قالوا: إن الجارية التي زوجها أبوها وأشار إليها الحديث كانت بكراً، والثالثة: أن حكم الحديث يشمل البكر لأن لفظ(النساء) في الحديث الشريف عام فيشمل البكر والثيب، وقد أشار إلى هذا صاحب سبل السلام 15.
إذن الخلاصة أيها الأخوة: لا يجوز تزويج المرأة إلا بإذنها بكراً كانت أم ثيباً عدا الصغيرة البكر. فهذا الحق كفله الإسلام للمرأة.
وكم يحزن القلب ويكلم الفؤاد عندما يسمع عن آباء لا يتقون الله في بناتهم، فاتخذوا تلك البنات سلعة يتاجرون بها، فهمّ الواحد منهم أن يزوج ابنته بأعلى المهور لأي رجل ولو كان فاسقاً أو منحرفاً أو تارك صلاة، وليته أعطاها المهر الذي أوجبه الله لها، بل إنه حرمها منه، وأجبرها على ذلك الزواج فأقول لهؤلاء: اتقوا الله تعالى في بناتكم وأخواتكم. واحرصوا على تزويجهن بصاحب التقوى والدين وارعوا حقوق من استأمنكم عليهن، وأحسنوا تربية أولادكم وبناتكم.
موقع إمام المسجد بتصرّف وتعديل