الكذّابُ والمخدوع
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (سيأتي على الناس سنين خداعات يُصدّقُ فيها الكاذب ويُكذّب فيها الصادق, ويقول في الناس الرويبضة"" قيل يا رسول الله وما الرويبضة, قال" الرجل التافه يتكلم في أمر العامة).
إن الخداع هو أن تظهر خلاف ما تخفيه وخدعه يخدعه خدعاً مثل سحره يسحره سحراً, وخدعه تعني أراد به المكروه و خَتَلَه من حيث لا يعلم ومنه قوله تعالى {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}النساء142,ويعني أنهم يقَدِّرون في أنفسهم أنهم يخدعون الله, " الحرب خدعة
والأصل في الخديعة أنها مذمومة ويقول في هذا المعنى الفخر الرازي رحمه الله ( والمذموم يجب أن يميَّز عن غيره لكي لا ينخدع به الناس و أصل الخديعة الإخفاء وسميت الخزانة..... المخدع, والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيّان, وقالوا خدع الضب خدعاً أي توارى في جحره فلم يظهر إلا قليل, وطريق خادع إذا كان مخالفاً للقصد بحيث لا يفطن له.
وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه, فهو في منزلة النفاق في الكفر والرياء في الأعمال الحسنة, وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين, لأن الدين يوجب الإستقامة والعدول عن الغرور والإساءة كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة, ومن هذا الجنس وصف المرائي بالمدلس إذا أظهر خلاف مراده.
فكان عمل المخادع هو إظهار صورته عبر تصرفاته بأنها الصورة المحببة للنفس حتى يترك أثراً أو انطباعاً عند الغير بعكس حقيقته, وفي هذا المعنى وفي الحديث (إن قبل الدجال سنين خداعه) يعني أنها ناقصة الزكاة قليلة المطر, ويقول ابن الأثير في شرح هذا النص أنه يكون قبل الساعة سنون خداعه أي تكثر الأمطار ويقل الربيع فذلك خداعها لأنها تطمعهم بالخصب حين ينهمر المطر بكثرة ثم لا يكون ربيع.
هذا واقع الخدعة والخديعة وأما الإنخداع فهو أن ترى بعين رأسك خلاف الحقيقة كالذي يرى السراب ماءً أو يرى أن العصا في الماء مكسورة وهذا هو الإنخداع البصري.
وأما ما نحن بصدده فهو الإنخداع الفكري وهو بناء المواقف أو تحديدها بناءً على وهم أو توهمٍ يحصل للنفس فيحرفها عن النظر إلى الأمور من خلال زاوية حقيقية صادقة, فكان وصف هذه السنين بأنها خداعة يصدَّق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق, لأن الناظر إليها من غير الزاوية الحقيقية ،،أو عبر وهمه وهواه ،،قد أثر هذا الهوى وهذا الوهم في كيفية رؤية الحقيقة فلا يكاد يراها حتى أنه يحاول أن يخدع نفسه إن لم يكن قد خدعها فعلاً حين صَدّقَ الكاذب وكذّب الصادق , حين نظر إلى الواقع عبر هذه السنين الخداعات فهو يحاول أن يقنع غيره أو يقنع نفسه بأن هذا السراب هو ماء وعليه السير نحوه.
والسؤال المهم هنا هو من الذي يصدق الكاذب ويكذب الصادق ..؟؟ عندما نقول بأن الكذب هو إخبار على غير وجه الحقيقة أو مخالفة الكلام للحقيقة الذهنية عند المتكلم نكون قد وضعنا وصفاً لمن يصح أن نطلق عليه لفظ كاذب, فالكاذب الذي أخبر خبراً وهو يعلم أنه يخالف الحقيقة الذهنية عنده وذلك من أجل أمرٍ معين ٍ عنده لتتحقق له غاية معينة وذلك مثل المنافقين عندما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقالوا{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }المنافقون1 .
إن المنافقين كاذبونَ من ناحية مخالفة كلامهم للحقيقة الذهنية عندهم لأنهم أبطنوا غير ما أظهروا , فإن من أخبر عن شيء واعتقد خلافه فهو كاذب, لما أن الكذب بإعتبار المخالفة بين الوجود اللفظي والوجود الذهني فقد قالوا بألسنتهم نشهد أنك لرسول الله وسماهم الله كاذبين لأن قولهم يخالف إعتقادهم, وقال قوم من العلماء لم يكذبهم الله في قولهم {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} بل بغير هذا في قوله تعالى {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ} وقوله {وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} , وجواب إذا {قَالُوا نَشْهَدُ} أي أنه إذا أتوك شهدوا لك بالرسالة فهم كاذبون في تلك الشهادة لما مر أن قولهم يخالف اعتقادهم.
ويندرج مع هؤلاء من توافق هواه مع ما يقوله الكاذب فإنه يصدق الكاذب ليس بصدق الكاذب وإنما لتوافق الأهواء بينهما أو لإنخداعه لشدة بريق زيف الكاذب.