[
داعية من نوع نادر
الدعوة إلى الله تعالى ليست كلمة تقال ، و لا شعاراً يُطلق ، و لا أمنية تهفو لها النفس ... بل هي كل ذلك ؛ مع عبودية تهيمن على الفكر و القلب و النفس و السلوك و الكلمة و الموقف .
و مشكلتنا الأكبر : صدأٌ هيمن على القلوب فغطّاها ، و ستر رونق التوحيد الذي بداخلها ، فجعل كلماتنا مجرد جمل باهتة لا تكاد تحرك ساكناً في قلوب غيرنا ، و السبب : أن التنُّور قد برد ؛ فما عاد يقذف أو يمد بأي حرارة ، و قديماً قالوا : " ليست النائحة كالثكلى " .
فهل نُعيد الحرارة إلى كلماتنا و دعوتنا ؛ بإيقاد تنور المراقبة لله تعالى في القلوب ؟ هل نعيد التوهُّج و التأثير إلى كلماتنا بعرضها على معدن حب الله و خوف الله و الحياء من الله ؟
هل نعود إلى الربانية المهيمنة على القلوب ؛ لكي تمدنا بما يغير نحو الأفضل و الأرشد و الأنفع ؟ ... أسأل الله تعالى ذلك ، و هذا مشهد يوضح لنا إحدى أخطر العلل التي نعاني منها ... و إحدى أهم الوسائل التي افتقدناها في الدعوة إلى الله تعالى :
قال الإمام مجاهد بن جَبْر – رحمه الله - : كنّا نفتخر بفقيهنا وقاضينا ؛ فأما فقيهنا : فابن عباس ، وأما قاضينا : فعُبَيد بن عمير. [ صفة الصفوة 2/207 – تحقيق الفاخوري ] .
و من أقوال عُبيد بن عُمَير - رحمه الله - (ت74):
إنْ أعظَمَكم هذا الليلُ أن تُكابدوه ، وبَخِلتم بالمال أن تُنفقوه ، و جَبُنتُم عن العدو أن تقاتلوه : فأكثروا من ذكر الله عز و جل . [ انتهى . نفسه ] .
و قد ذكر الحافظ أبو الفَرَج ابن الجوزي – رحمه الله - وغيره :
أن امرأةً جميلة كانت بمكة ، وكان لها زوج ، فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة ؛ فقالت لزوجها : أَتَرى أحداً يَرَى هذا الوجه ولا يُفتَتَنُ به ؟ قال : نعم . قالت : مَن ؟ قال : عُبَيد بن عُمَير . قالت : فائْذَنْ لي فيه ؛ فلَأَفْتِنَنَّه !! قال : قد أَذِنت لك .
فأتته كالمستفتية ، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام ، فأَسفَرَتْ عن وجهٍ مثلِ فَلْقَةِ القمر . فقال لها : يا أَمَةَ الله ؛ استَتِري ؟؟ فقالت : إنِّي قد فُتِنتُ بك !! . قال : إني سائلُكِ عن شيءٍ ؛ فإن أنت صدقتِني في الجواب نظرتُ في أمرك ؟ قالت : لا تسألني عن شيء إلا صدقتك . قال : أخبريني ؛ لو أن مَلَك الموت أتاكِ ليقبِضَ روحَكِ : أكان يُسَرُّكِ أن أقضي لكِ هذه الحاجة ؟ قالت : اللهم لا . قال : صدقتِ .
ثم قال لها : فلو دخلتِ قبركِ ، وأُجلِستِ للمساءلة : أَكَان يَسُرُّكِ أني قضيتُها لك ؟ قالت : اللهم لا . قال : صدقتِ .
قال : فلو أن الناسَ أُعطُوا كُتُبَهم ولا تَدرينَ : أَتَأخُذينَ كتابَكِ بيمينكِ أم بشِمالكِ : أكان يَسُرُّك أَني قضيتُها لك ؟ قالت : اللهم لا . قال : صدقتِ .
ثم قال : فلو أردتِ الممرَّ على الصراط ؛ ولا تدرين : هل تنجينَ أو لا تنجينَ : أكان يَسُرُّكِ أنّي قضيتُها لكِ ؟ قالت : اللهم لا . قال : صدقتِ.
ثم قال : فلو جِيءَ بالميزان ، وجِيءَ بكِ ؛ فلا تدرينَ : أيخفُّ ميزانُك أم يَثقُل : أكان يَسُرَّكِ أني قضيتُها لكِ ؟ قالت : اللهم لا .
ثم قال : فلو وقفتِ بين يدي الله للمساءلة : أكان يَسُرَّكِ أني قضيتُها لكِ ؟ قالت : اللهم لا . قال : صدقتِ . ثم قال لها : اتَّقي اللهَ ؛ فقد أنعمَ اللهُ عليكِ ؛ وأحسنَ إليكِ .
فرجعت إلى زوجها ، فقال لها : ما صنعتِ ؟ قالت : أنتَ بَطَّال ، ونحنُ بطَّالون !!! فأقبلتْ على الصلاة والصوم والعبادة ، فكان زوجُها يقول : ما لي و لعُبَيد بن عُمير ؟ أفسدَ عليَّ امرأتي ؛ كانت في كلِّ ليلةٍ عروساً ؛ فصيَّرها راهبةً .ا.هـ.انظر : المنتظم لابن الجوزي ( 2 / 277 – وفيات سنة 77 هـ ) ، و نقلها عنه ابن القيم في روضة المحبين ( ص340 ) – طبعة دار الكتب العلمية .
لن أعلق على هذه المأثرة الرائعة في الدعوة إلى الله تعالى ؛ و إرشاد الشاردين ... إلا بأن أقول نفسي :
بأن كل ما نحتاجه لنجاح دعوتنا : أن نتذكر : لمن ندعوا ؟ و كيف ندعوا ؟ و ماذا نريد من دعوتنا ؟ ...
و مفتاح كل ذلك : أن لا تنسى أنك عبد ؛ تدعو الخلق إلى ربهم ... إلى مولاك ... لا إلى نفسك أو رأيك أو هواكَ ...
و عندها ستصل دعوتنا إلى القلوب ؛ فتنفضها ؛ و تجعلها تنقلب على نفسها ...
فاللهم روحاً من عندك ... و ثباتاً من عندك .... و توفيقا من عندك ... و إخلاصاً يقودنا في كل ذلك .[/r