قصيدة ...علمتني الحياة...
للشاعر المصري محمد مصطفى حمام 1906-1964
علمتني الحياة أن أتلقى كل ألوانها رضا وقبولا
ورأيت الرضا يخفف أثقالي ويلقي على المآسي سدولا
والذي ألهم الرضا لا تراه أبد الدهر حاسدا أو عذولا
أنا راض بكل ما كتب الله ومزج إليه حمدا جزيلا
أنا راض بكل صنف من الناس لئيما ألفيته أو نبيلا
لست أخشى من اللئيم أذاه لا ولن اسأل النبيل فتيلا
فسح الله في فؤادي فلا أرضى من الحب والوداد بديلا
في فؤادي لكل ضيف مكان فكن الضيف مؤنسا أو ثقيلا
ضل من يحسب الرضا عن هوان أو يراه على النفاق دليلا
فالرضا نعمة من الله لم يسعد بها في العباد إلا القليلا
علمتني الحياة أن لها طعمين مرا و سائغا معسولا
فتعودت حالتيها قريرا وألفت التغيير و التبديلا
أيها الناس كلنا شارب الكأسين إن علقما وإن سلسبيلا
نحن كالروض نضرة وذبولا نحن كالنجم مطلعا و أفولا
نحن كالريح ثورة وسكونا نحن كالمزن ممسكا و هطولا
نحن كالظن صادقا وكذوبا نحن كالحظ منصفا و خذولا
قد تسري الحياة عني فتبدي سخريات الورى قبيلا قبيلا
فأراها مواعظا ودروسا ويراها سواي خطبا جليلا
أمعن الناس في مخادعة النفس وضلوا بصائرا وعقولا
عبدوا الجاه والنضار وعينا من عيون المها وخدا أسيلا
الأديب الضعيف جاها ومالا ليس إلا مثرثرا مخبولا
والعتل القوي جاها ومالا هو أهدى هدى وأقوم قيلا
وإذا غادة تجلت عليهم خشعوا أو تبتلوا تبتيلا
وتلوا سورة الهيام وغنوها وعافوا القرآن والإنجيلا
لا يريدوا آجلا من ثواب الله إن الإنسان كان عجولا
فتنة عمت المدينة والقرية لم تعف فتية أو كهولا
وإذا ما انبريت للوعظ قالوا لست ربا ولا بعثت رسولا
أرأيت الذي يكذب بالدين ولا يرهب الحساب الثقيلا
أكثر الناس يحكمون على الورى وهيهات أن يكونوا عدولا
فلكم لقبوا البخيل كريما ولكم لقبوا الكريم بخيلا
ولكم أعطوا الملح فأغنوا ولكم أهملوا العفيف الخجولا
رب عذراء حرة وصموها وبغي قد صوروها بتولا
وقطيع اليدين ظلما ولص أشبع الناس كفه تقبيلا
وسجين صبوا عليه نكالا وطليق مدلل تدليلا
جُل من قلد الفرنجة منا قد أساء التقليد و التمثيلا
فأخذنا الخبيث منهم ولم نقبس من الطيبات إلا القليلا
يوم سن الفرنج كذبة إبريل غدا كل عمرنا إبريلا
نشروا الرجس مجملا فنشرناه كتابا مفصل ا تفصيلا
علمتني الحياة أن الهوى سيل فمن ذا الذي يرد السيولا
قلت والخير في الكون باق بل أرى الخير فيه أصلا أصيلا
إن تر الشر مستفيضا فهون لا يحب الله اليئوس الملولا
ويطول الصراع بين النقيضين ويطوي الزمان جيلا فجيلا
وتظل الأيام تعرض لونيها على الناس بكرة وأصيلا
فذليل بالأمس صار عزيزا وعزيز بالأمس صار ذليلا
ولقد ينهض العليل سليما ولقد يسقط السليم عليلا
رب جوعان يشتهي فسحة العمر وشبعان يستحث الرحيلا
وتظل الأرحام تدفع قابيلا فيردي ببغيه هابيلا
ونشيد السلام يتلوه سفاحون سنوا الخراب والتقتيلا
صور ما سرحت بالعين فيها وبفكري إلا خشيت الذهولا
قال صحبي نراك تشكو جروحا أين لحن الرضا رخيما جميلا
قلت أما جروح نفسي فقد عودتها بلسم الرضا لتزولا
غير أن السكوت عن جرح قومي ليس إلا التقاعس المرذولا
لست أرضى لأمة أنبتتني خلقا شائها و قدرا ضئيلا
أنا أبغي لها الكرامة والمجد وسيفا على العدا مسلولا
علمتني الحياة أني إن عشت لنفسي أعش حقيرا هزيلا
علمتني الحياة أني مهما أتعلم فلا أزال جهولا