العصر العبيدي ( الفاطمي) الثاني
ظهور طائفة الإسماعيلية النزارية
ابتدأ هذا العصر بالنزاع بين أبناء المستنصر نزار الابن الأكبر وولي العهد من قبل أبيه، وأحمد أبو القاسم صغير السن الذي فرضه الأفضل بدر الجمالي ليكون الخليفة رغم أنف نزار..
وكان في هذه الآونة بمصر الحسن بن الصباح القائم على الدعوة الإسماعيلية بأصبهان، جاء يتعمق في دراسة المذهب الإسماعيلي.. فلما رأي هذه الأحداث، وكان الحسن يري أن تولية نزار الإمامة بعد أبيه تتفق مع تعاليم الإسماعيلية، التي تشترط أن يكون الإمام أكبر أبناء أبيه، وأظهر الحسن رأيه بمصر، وهدد نفوذ بدر الجمالي، فكاد له بدر وزجه بالسجن ونفاه إلى بلاد المغرب، غير أن الريح قذفت بالسفينة التي أبحر عليها سنة 472 هـ إلى سواحل الشام، فنزل بثغر عكا ثم عاد إلى بلاده حيث أخذ ينادي بإمامة المستنصر وابنه نزار، من بعده ولذلك سميت هذه الطائفة الإسماعيلية النزارية.
عصر نفوذ الوزراء
سيطر الوزراء في هذا الطور على مقاليد الحكم، وبلغ من نفوذ الأفضل أنه بعد وفاة المستعلي سنة 495هـ أتى بأبي على بن المستعلي، وأقامه على الخلافة وعمره خمس سنوات، ولقبه بالآمر فلما شب هذا الخليفة الصغير ضاق ذرعًا بنفوذ وزيره فدبر لقتله فقتله سنة 515 هـ.
وفى سنة 524هـ قُتِل الخليفة وتولي أخوه عبد المجيد أبو الميمون الحافظ الخلافة من بعده، ولكن الجند ثاروا عليه وولوا أبا على أحمد بن الأفضل الوزارة، فاستأثر بالسلطة والنفوذ وسجن الحافظ- وكان إماميًا لا إسماعيليًا- فعمل على الانتصار لهم وعلى إضعاف المذهب الإسماعيلي بأن عين أربعة قضاه؛ أحدهما إمامي والآخر إسماعيلي والثالث شافعي والرابع مالكي، وأعطي كلاً منهم السلطة في إصدار أحكامه وفق مذهبه (ولم يسمع بمثل هذا في الملة الإسلامية قبل ذلك).
ومكث على ذلك حتى اغتالته الإسماعيلية سنة 526هـ وأخرجوا الحافظ من سجنه وعاد خليفة من جديد.
وفي سنة 529هـ طمع بهرام الأرمني والي الغربية في الوزارة، فقدم إلى القاهرة وحاصرها يومًا فاضطر الحافظ إلى توليته الوزارة على الرغم من عدم دخوله الإسلام، وعاني المصريون فترة من سيطرة الأرمن وتحيز بهرام لبني جنسه، حتى أنهم أكثروا من بناء الكنائس والأديرة حتى صار لكل رئيس منهم كنيسة بجوار داره.. حتى استطاع رضوان بن ولخشي والي الغربية أن يطرد بهرام وأصبح وزيرًا سنة 530 هـ، ولكنه أراد أن يعزل الحافظ ودار بينهما صراع انتهي بمقتل رضوان سنة 452هـ.
وهكذا ظل النزاع والتنافس على الوزارة بين الوزراء والخلفاء جيلاً بعد جيل، وتدخل الوزراء في تولية الخلفاء، ولم يراعوا في توليتهم تعاليم الإسماعيلية.
حملات نور الدين محمود إلى مصر
تطور التنافس على الوزارة في مصر في نهاية العصر العبيدي (الفاطمي) إلى استعانة بعض الطامعين فيها بأمراء الدول المجاورة، فلقد لجأ شاور وزير الدولة المخلوع على يد أحد قواد الجيش ضرغام سنة 558 إلى الالتجاء لنور الدين محمود، صاحب دمشق، ليمده بقوة يستعين بها على استعادة نفوذه، على أن يتنازل له عن ثلث خراج مصر فأعانه نور الدين بحملة بقيادة أسد الدين شيركوه فتغلب على ضرغام وأعيد شاور إلى منصبه سنة 559 هـ، ولم يف شاور بما عاهد عليه حليفه نور الدين، وطلب من شيركوه أن يرجع إلى الشام وأرسل شاور إلى ملك الفرنجة ببيت المقدس يستمده ويخوفه من نور الدين إن ملك الديار المصرية، فسارع الملك إلى نجدته ونجح في إخراج شيركوه إلى بلاد الشام
وفى سنة 562 أنفذ نور الدين حملة إلى مصر بقيادة شيركوه، لما ثبت له غدر شاور به، وكان صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب من بين الذين اشتركوا في هذه الحملة.
استنجد شاور ثانية بالفرنجة فأجابوه والتقى جند شيركوه وجند الفرنجة وحلفاؤهم في مكان يعرف بالبابين (على مقربة من المنيا)، وكان النصر من نصيب شيركوه ولم يجد نفسه قادرًا على السير إلى القاهره فوطد سلطانه بالصعيد وجبى الخراج، ثم سار إلى الإسكندرية عبر الصحراء وعين ابن أخيه صلاح الدين واليًا عليها، ولكن قوات الفرنجة والمصريين عادت إلى محاصرة الإسكندرية برًا وبحرا فأسرع شيركوه إلى نصرة صلاح الدين. فطلب المصريون والفرنجة الصلح فأجابهم على ألا يقيم الفرنجة بالبلاد المصرية، ثم عاد شيركوه إلى دمشق والحقيقة أن قوات الفرنجة لم تغادر مصر تنفيذًا لهذا الصلح، بل عقدت مع شاور معاهدة كان من أهم شروطها.. (أن يكون لهم بالقاهرة شحنة صليبية، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين عن إنفاذ عسكره إليهم).
كما اتفق الطرفان على أن يكون للصليبين مائة ألف دينار سنويا من دخل مصر..
طمع الحال التي وصلت إليها مصر الفرنجة في أن يقدموا بحملة سنة 564هـ لغزوها بقيادة ملك بيت المقدس، ولم يجد شاور أمامه سوى استعمال الحيلة، فأحرق الفسطاط حتى لا يأوي إليها الصليبيون، فظلت النار مشتعلة بها أربعة وخمسين يومًا.. ثم أرسل إلى ملك الفرنجة أنه يخشى إن دخلتم مصر أن يقدم نور الدين ليحتل مصر، وأشار عليه بالصلح على أن يؤدي إليه ألف ألف دينار..
على أن شاور ما لبث أن خدع الفرنجة، فأرسل إلى نور الدين يطلب النجدة، وتعهد أن ينزل له عن ثلث بلاد مصر،وأن يأذن لأسد الدين شيركوه بالإقامة عنده مع جنده، وأن يكون إقطاع هؤلاء الجند خارجًا عن ثلث البلاد الذي أفرده لنور الدين.
سارع نور الدين إلى تجهيز قوة كبيرة بقيادة شيركوه توجهت نحو مصر، فلما وصلت الأخبار إلى الصليبيين قرروا الرحيل إلى فلسطين بغير قتال، ثم دخل أسد الدين شيركوه القاهرة في ربيع الآخر سنة 564 فرحب به أهلها، واستقبله الخليفة العاضد وخلع عليه، وأصبح أسد الدين شيركوه وزيرًا للعاضد، واستطاع في فترة وزارته القصيرة أن يقبض على زمام الأمر بالدولة.
وحاول شاور أن يدبر مؤامرة للقبض على شيركوه ومن معه من الأمراء، ولكن نهاه ابنه الكامل وقال: «والله لئن عزمت على هذا الأمر لأعرفن أسد الدين».
فقال شاور: «والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعًا».
قال ابنه: «صدقت، ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل وقد ملكتها الإفرنج».
فعدل عن عزمه ثم تخلص منه أسد الدين بعد ذلك وقتله..
صلاح الدين وإلغاء الخلافة العبيدية الفاطمية
توفي أسد الدين بعد ثلاثة أشهر من دخوله القاهرة، واختار العاضد صلاح الدين يوسف بن أيوب وزيرًا له، فبذل الأموال للرعية فأحبوه، وأمر بذكر نور الدين في الخطبة بعد الخليفة العبيدي
( الفاطمي)، وأقطع أصحابه البلاد، وأسند إليهم بعض المناصب، فهدد بذلك صلاح الدين أصحاب المصالح في بقاء الدولة الفاطمية، فعملوا على المكر، به واتفق رأيهم على أن يكاتبوا الفرنجة ودعوتهم إلى مصر، فإذا ما خرج صلاح الدين إلى لقائهم، قبضوا على من بقي من أصحابه بالقاهرة وانضموا إلى الفرنجة في محاربته.
ولكن صلاح الدين الأيوبي كان يقظًا واستطاع أن يقضي بقوة على خطط هؤلاء، فدبر لقتل جوهر مؤتمن الخلافة، فثار الجند السودانيون، وكانوا يزيدون على خمسين ألفًا ودار بينهم وبين قوات صلاح الدين قتال عنيف، فتتبعهم صلاح الدين حتى وصلوا الصعيد حتى قضي على نفوذهم نهائيًا سنة 572..
كانت الفرنجة تتربص بنور الدين وتوسعاته في مصر، ويرون فيه خطرًا يهدد كيانهم، ولذلك هيأوا لحملة جديدة على مصر، استعانوا فيها بإمبراطور الدولة البيزنطية، فتوجهوا إلى دمياط يعاونهم أسطول بيزنطي مزود بالمؤن والعتاد، فوصلوا إليها في صفر سنة 565 فلم يخرج إليهم صلاح الدين بنفسه خوفًا من مؤامرات العبيديين الفاطميين، بل أرسل جيشًا بقيادة أخيه تقي الدين عمر، وخالد شهاب الدين محمود لمواجهة الفرنجة وبعث يطلب المدد من نور الدين فأرسل إليه مددًا، وكان الخليفة العاضد كذلك حريصًا على إعانة صلاح الدين بالمال طوال مدة حصار الفرنجة لدمياط؛ لذلك يقول صلاح الدين.. (ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إليّ مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار سوى ما أرسله إلى من الثياب وغيرها).
وقد فترت حماسة الصليبيين فرجعوا من حيث أتوا في ربيع الأول سنة 565.
لما أيقن صلاح الدين أن سلطانه قد أستقر، وجه اهتمامه إلى القضاء على المذهب الشيعي في مصر، فأنشأ سنة 566 هـ مدرسة لتدريس المذهب الشافعي، وأخري لتدريس المذهب المالكي،وعزل قضاة الشيعة، وعين صدر الدين عبد الملك بن درباس قاضيًا للقضاة في جميع أنحاء البلاد المصرية، فاستعاد بذلك المذهب السني قوته.
ثم أرسل نور الدين إلى صلاح الدين أن يجعل الخطبة باسم الخليفة العباسي محل الخليفة العبيدي الفاطمي، فتردد متخوفًا من سخط المصريين، لكن نور الدين أصر فتحولت الخطبة للخليفة العباسي المستضيء بنور الله... وكان العاضد إذ ذاك مريضًا ولم يعلم أهله بذلك ثم توفي في 10 من محرم سنة 567، وهكذا انتهت الدولة العبيدية (الفاطمية) الشيعية بمصر.
دمتم بخير