مؤذن الرسول
إنه بلال بن رباح الحبشي -رضي الله عنه-، وكان بلال قد بدأ يسمع عن الرسول الذي جاء بدين جديد، يدعو إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، ويحث على المساواة بين البشر، ويأمر بمكارم الأخلاق، وبدأ يصغي إلى أحاديث زعماء قريش وهم يتحدثون عن محمد. سمعهم وهم يتحدثون عن أمانته، ووفائه، وعن رجولته، ورجاحة عقله، سمعهم وهم يقولون: ما كان محمد يومًا كاذبًا، ولا ساحرًا، ولا مجنونًا، وأخيرًا سمعهم وهم يتحدثون عن أسباب عداوتهم لمحمد (.
فذهب بلال إلى رسول الله ( ليسلم لله رب العالمين، وينتشر خبر إسلام بلال في أنحاء مكة، ويعلم سيده أمية بن خلف فيغضب غضبًا شديدًا، وأخذ يعذب بلالا بنفسه؛ لقد كانوا يخرجون به إلى الصحراء في وقت الظهيرة، ذلك الوقت التي تصير فيه الصحراء كأنها قطعة من نار، ثم يطرحونه عاريًا على الرمال الملتهبة، ويأتون بالحجارة الكبيرة، ويضعونها فوق جسده، ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، ويظل بلال صابرًا مصممًا على التمسك بدينه، فيقول له أمية بن خلف: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول بلال: أحد.. أحد!!
لقد هانت على بلال نفسه بعدما ذاق طعم الإيمان، فلم يعد يهتم بما يحدث له في سبيل الله، ثم أمر زعماء قريش صبيانهم أن يطوفوا به في شعاب مكة وشوارعها ليكون عبرة لمن تحدثه نفسه أن يتبع محمدًا، وبلال لا ينطق إلا كلمة واحدة، هي: أحد.. أحد، فيغتاظ أمية ويتفجر غمًّا وحزنًا، ويزداد عذابه لبلال.
وذات يوم، كان أمية بن خلف يضرب بلالاً بالسوط، فمرَّ عليه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقال له: يا أمية ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ إلى متى ستظل تعذبه هكذا؟ فقال أمية لأبي بكر: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، وواصل أمية ضربه لبلال، وقد يئس منه، فطلب أبو بكر شراءه، وأعطى أمية ثلاث أواق من الذهب نظير أن يترك بلالا، فقال أمية لأبي بكر الصديق: فواللات والعزى، لو أبيت إلا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها، فقال أبو بكر: والله لو أبيت أنت إلا مائة أوقية لدفعتها، وانطلق أبو بكر ببلال إلى رسول الله ( يبشره بتحريره.
وبعد هجرة النبي ( والمسلمين إلى المدينة واستقرارهم بها، وقع اختيار الرسول ( على بلال ليكون أول مؤذن للإسلام، ولم يقتصر دور بلال على الأذان فحسب، بل كان يشارك النبي ( في كل الغزوات، ففي غزوة بدر أول لقاء بين المسلمين وقريش دفعت قريش بفلذات أكبادها، ودارت حرب عنيفة قاسية انتصر فيها المسلمون
انتصارًا عظيمًا.
وفي أثناء المعركة لمح بلال أمية بن خلف، فيصيح قائلاً: رأس الكفر
أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، وكانت نهاية هذا الكافر على يد بلال، تلك اليد التي كثيرًا ما طوقها أمية بالسلاسل من قبل، وأوجع صاحبها ضربًا بالسوط.
وعاش بلال مع رسول الله ( يؤذن للصلاة، ويحيي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات إلى النور، ومن رقِّ العبودية إلى الحرية، وكل يوم يزداد بلال قربًا من قلب رسول الله ( الذي كان يصفه بأنه رجل من أهل الجنة، ومع كل هذا، ظل بلال كما هو كريمًا متواضعًا لا يرى لنفسه ميزة على أصحابه.
وذات يوم ذهب بلال يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين، فقال لأبيهما: أنا بلال، وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، إن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله. فزوجوهما، وكان بلال -رضي الله عنه- عابدًا لله، ورعًا، كثير الصلاة، قال له النبي ( ذات يوم بعد صلاة الصبح: (حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فأني قد سمعت الليلة خشفة نعليك (صوت نعليك) بين يدي في الجنة)، فقال بلال:
ما عملت عملا أرجى من أني لم أتطهر طهورًا تامًا في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت لربي ما كتب لي أن أصلي. [البخاري].
وحزن بلال حزنًا شديدًا لوفاة النبي (، ولم يستطع أن يعيش في المدينة بعدها، فاستأذن من الخليفة أبي بكر في الخروج إلى الشام ليجاهد في سبيل الله، وذكر له حديث رسول الله (: (أفضل عمل المؤمنين جهاد في سبيل الله) [الطبراني]. وذهب بلال إلى الشام، وظل يجاهد بها حتى
توفي -رضي الله عنه-.