أنتم أيها الناس تذكرون فجر الشباب فرحين باسترجاع رسومه، متأسفين على انقضائه، أما أنا فأذكره مثلما يذكر الحر المعتوق جدران سجنه وثقل قيوده. أنتم تدعون تلك السنين التي تجيء بين الطفولة والشباب عهداً ذهبياً يهزأ بمتاعب الدهر وهواجسه ويطير مرفرفاً فوق رؤوس المشاعل والهموم مثلما تجتاز النحلة فوق المستنقعات الخبيثة، سائرة نحو البساتين المزهرة، أما أنا فلا أستطيع أن أدعو سني الصبا سوى عهد آلام خفية خرساء كانت تقطن قلبي وتثور كالعواصف في جوانبه، وتتكاثر نامية بنموه ولم تجد منفذاً تنصرف منه إلى عالم المعرفة حتى دخل إليه الحب وفتح أبوابه وأنار زواياه، فالحب قد عتق لساني فتكلمت ومزق أجفاني فبكيت وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت.
أنتم أيها الناس تذكرون الحقول والبساتين والساحات وجوانب الشوارع التي رأت ألعابكم وسمعت همس طهركم، وأنا أيضاً أذكر تلك البقية الجميلة من شمال سورية جبل الزاوية، فما أغمضت عينيّ عن هذا المحيط إلا ورأيت تلك الأودية المملوءة سحراً وهيبة، وتلك الجبال المتعالية بالمجد والعظمة نحو العلاء، ولا صممت أذني عن ضجة هذا الاجتماع إلا وسمعت خرير تلك السواقي وحفيف تلك الغصون, ولكن هذه المحاسن التي أذكرها الآن وأشوق إليها شوق الرضيع إلى ذراعي أمه هي التي كانت تعذب روحي المسجونة في ظلمة الحداثة مثلما يتعذب البازي بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبح حرة في الخلاء الوسيع ــ وهي التي كانت تملأ صدري بأوجاع التأمل ومرارة التفكير، وتنسج بأصابع الحيرة والالتباس نقاباً من اليأس والقنوط حول قلبي ــ فلم أذهب إلى البرية إلا وعدت منها كئيباً جاهلاً أسباب الكآبة. ولا نظرت مساء إلى الغيوم المتلونة بأشعة الشمس إلا وشعرت بانقباض متلف ينمو لجهلي معاني الانقباض، ولا سمعت تغريدة الشحرور أو أغنية الغدير إلا وقفت حزيناً لجهلي موجبات الحزن. وقد علمت مؤخرا ماهي موجبات الحزن نعم...........وانتم ايضا تعلموها ولكن لخطورة الوضع لن اقولها...