تابع 7
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على حضرة سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ذكرت في الحلقة الخامسة بعض ما رصدته من مشاهد جامدة للطبيعة في هذا البلد ولكنها تقريبا تكاد تخلو من الأسلوب الأدبي الذي يشد المتلقي والذي عادة ما أتجنبه لكي لا يكون الموضوع جافا ثقيلا مع أنني ليس لي به اختيار فلا بد من تبيان بعض الحقائق التي لا يصلح معها الأسلوب الأدبي في العادة .
ونبقى ضمن سياق موضوع الطبيعة في قرغيزيا وكيف أنني استطعت جمع هذه المشاهدات عيانا كانت بدايتي مع صديق روسي اسمه ( سيميونوفيتش) هو من فتح لي الطريق لسبر أغوار الطبيعة هاهنا و سأسوق لكم القصة كاملة من غير زيادة أو نقصان:
كان سيميو رجلا قصير القامة عريض المنكبين أصلع الرأس أبح الصوت عمره 72 عاما يتكأ على عصا قديمة كان اسمها عكاز يعمل لدى الجامعة مشرفا على نظام التدفئة المركزية فيها .
كان هذا الرجل يتودد لي ودادا خاصا بشكل كنت أشعر به كالوالد لولده وبالمقابل بادلته المودة والاحترام وأزحت حاجز المستوى العلمي بين الأستاذ والموظف البسيط بسبب ما ذكرت من مودته وبسبب آخر هو أنني كنت أطمع بإسلامه لعله يلقى الله تعالى بإسلام.
كان رجلا صاحب دعابة مع كبر سنه , ومن المواقف التي لا أزال أذكرها والتي كان يكررها كلما رآني في الصباح أنه كان يقف في أعلى درج الطابق الأول وأنا أدناه فيمد يده على استقامتها مرحبا مبتسما كأنه يقدم تحية على الطريقة الهتلرية وأنا أيضا أبادله التحية نفسها وكلانا يفعلها على سبيل الدعابة والمزاح .
ولما تكررت هذه الدعابات أعطتني فرصا لكي يكون لي بمنزلة الصديق الحميم فكان هذا بحق.
فأصبحت علاقتنا تقوى مع مرور الأيام فيسر لي أشياء من خصوصياته , واجتهدت بالبحث عن سبب تلك المودة مع فارق العمر واللغة والترتيب الوظيفي فعلمت فيما بعد أنه كان له ابنا بمثل عمري قد فارقة مقاطعا له سافر إلى روسيا لا يعلم عنه شيئا منذ سنوات طويلة, فأدركت حينها أن الرجل يعوض فيَّ حنان الأب الذي فقده في ابنه العاق هذا , فزدت من مودتي له وكنت إذا أردت مساعدته ماديا افتعلت عطلا في أنابيب (مواسير) المنزل فأستدعيه لإصلاحها فأكرمة وأقدم له الطعام وأعطيه أجره وزيادة وأحمله بسيارتي إلى بيته ابتغاء وجه الله.
ولما كانت طبيعة سيمو نزيهة عزيزة أراد أن يرد لي المكافأة فطلب مني ذات يوم اصطحابي إلى منزله الصيفي ( المسمى بالدجا dacha كما أسلفت في الحلقة الخامسة) بسيارتي الخاصة فذهبت معه برفقة ولديَّ عبد القادر وعامر وكانت الداجا تقع على مسافة 35 كم خارج مدينة بشكيك تحتضنها الجنان - أقصد الجبال- وكنت آنذاك أول مرة أذهب لتلك المنطقة الساحرة فبهرت من جمال الطبيعة فيها وتمنيت أن يرزقني الله تعالى بيتا فيها وأخفيت هذه الأمنية في نفسي ولم أبدها له خشية أن يظن أنني أحسده .
وصلنا بوابة مجمع البيوت الصيفية فطلب مني النزول فنزل وفتح تلك البوابة الضخمة ودخلنا في طريق ضيق بين أشجار التفاح والإجاص والكرز حتى وصلنا بيته فإذا هو عبارة عن بيت قرميدي صغير تحيط به الأشجار حتى لا يكاد يرى أن هاهنا بيت فدلفنا ساحتة وأخرج من تحت خشبة طويلة ملقاة بجانبه مفتاحا كبيرا ذكرني بمفتاح بيت عمتي خداج رحمها الله تعالى وفتح الباب وأمرنا بالدخول فأزاح ما شاء الله له أن يزيح من أغراض متراكمة بعضها فوق بعض وفتح بابا آخر فلما استوى في داخل الغرفة الثانية نظر إلى أرضها أسفل قدميه وفتح غطاء من خشب يوصل إلى مخزن تحت الأرض فدلف فيه لوحده على سلّم وبقي غائبا فيه غير قليل وكنت أنتظره بين أكوام الأغراض القديمة وحينما أشعر بإحساس أشبه ما يكون بالاختناق أخرج من البيت وأعاود الولوج به بعد أن أملأ رئتاي من الأوكسوجين النقي في الخارج حتى ناداني بصوته الأبح: أستاااااااااذ ( وينطق هذه الكلمة بالعربية ) تعال وخذ هذا الكيس فمددت يدي وأخذته منه فرفعته إلى الأعلى ونظرت ما بداخله فإذا فيه إجاص فأكلت منه واحدة فإذا هي كأطيب وأحلى وأطرى إجاص أكلته في حياتي ولا أبالغ, ثم ناداني ثانية وناولني كيسا آخر فيه إجاص أيضا ونادى ولدي عبد القادر فأعطاه كيسا آخر وكنت كل مرة أثنيه عن إكرامه فيزداد اندفاعا في الكرم حتى ملأ لنا ما يقارب العشرة كيلوغرامات , ثم دلف مرة أخرى وملأ لنفسه كيسين وناولنا إياهما ووضعناها في السيارة.
سألته عندما خرج, ما هذا المستودع الذي نزل فيه؟ فأجاب:هذا اسمة البادفال ((padval وهو مكان لا نضع فيه إلا الفواكه وفيه تحفظ مدة طويلة أكثر من أربعة أشهر لا يصيبها الصقيع ولا التلف .
أغلق المستودع وجلسنا خارج البيت نستمتع بالمناظر الخلابة والهواء النقي ثم قفلنا راجعين إلى بشكيك.
في الطريق كانت مازالت صور تلك المشاهد تمر أمام ناظري وتجول في خاطري فتزيدني تعلقا وتلح علي أن أتخذ منها موطئا وموطنا فأصبحت تساق إلى خاطري أسئلة واستفسارات عن أسعار تلك البيوت إن كانت تباع فسألته إن كنت أستطيع شراء بيت مثل بيته فقال يمكنك ذلك ولكن لا بد أن نجد من يبيع وأن علي أن أنتظر شهرين أو ثلاثة حتى يتمكن هو من البحث عمن يبيع وبسعر مناسب , فسألته عن أسعار البيوت هذه فقال: تتراوح بين الخمسمائة دولار والألف , فقلت له على الفور إذن جد لي بيتا في أقرب وقت , فوعد ني خيرا .
وصلنا البيت وساعده الأولاد بحمل كيسي الاجاص إلى شقته وودعناه شاكرين له كرمه وواصلنا طريقنا إلى بيتنا حيث كان الصغار ينتظروننا فشاركونا الفرحة وقصصنا عليهم رحلتنا فبتنا بأطيب ليلة .
وإلى لقاء
أحمد عبد القادر الطويل
بشكيك