تابع9
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على حضرة سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وصلنا إلى شقة صديقي العجوز وكانت مجاورة للجامعة , طرق الباب فخرج رجل روسي طويل أشقر فاستقبلنا بحفاوة وأدخلني غرفة الاستقبال وجلسنا , فما كدت أستوي في مقعدي حتى وقفت بباب الغرفة سيدة روسية خريفية العمر , فنهض العجوز وتقدم إليها وأمسكها من يدها وطلب منها الدخول , وقال لها :أعرفكما ببعض, هذا هذا صديقي الأستاذ أحمد , هو عربي ووو..فقاطعته قائلة : قد عرفته أليس هو الذي كنت تحكي لنا عنه باستمرار, فتقدمت إلي وقد علت وجهها علامات الحفاوة والمبالغة في الترحيب , قائلة: اسمي كاتيا ابنة صديقك العجوز , ومدت يدها للمصافحة , فسحبت يدي إلى الخلف فجأة من غير ما شعور فبهتت المرأة وشعرت أنا الآخر بالإحراج الشديد فاعتذرت عن عدم مصافحتها , فقالت: إن يدي نظيفة , فأجبتها : إن عدم مصافحتي لك ليس هو شكي في عدم نظافة يدك, بل السبب هو أنني رجل مسلم يحرم علي مصافحة المرأة من غير المحارم عموما ,فارتسمت على وجهها علامات التعجب مما زاد المشكلة تعقيدا وأحال القضية إلى غموض الله وحده هو الذي سيكشفه, واستدركت الأمر فقلت لها لا بأس أنا سعيد بمعرفتك يا سيدة كاتيا , فهزت رأسها مبتسمة تخفي وراء ابتسامتها تساؤلات وتساؤلات لم تجد لها إجابات واضحة , تدخل صديقي سيميو العجوز محاولا قطع أية امتدادات شعورية سلبية غير محسوبة لهذا الموقف المفاجئ قائلا: هذه ابنتي الغالية كاتيا وهذا الرجل الذي استقبلنا هو زوجها , وهي ربة بيت ناجحة تعدًّ لي طعاما لذيدا ولاسيما البورش الأكلة الروسية المفضلة لدي ,لها بنتان وولد أصغرهما سنا يشبهني إلى حد كبير ولكنها تشبه أمها زوجتي العزيزة التي فارقتني قبل سنتين , أأأأأه يا إلهي كم أنا مشتاق لها كم أود رؤيتها ليتني ألحق بها فأنا لا يمكنني العيش بدونها , لا أحد يا أستاذا يعوضني عنها , وقد بدت علامات التأثر في وجه صديقي العجوز, فقلت : لا بأس عليك فإن ابنتك كاتيا تعوض عن أمها ألم تقل إنها تشبهها؟ وربتُّ على كتفه , وفجأة خرج من الغرفة كأنه يريد إحضار شيء ما فنظرت السيدة كاتيا إليّ وقالت: لم أنت واقف هكذا تفضل بالجلوس , فجلستُ وجلست , وقالت لي: أنتم تسكنون في حيّنا في العمارة المجاورة لنا أليس كذلك؟ , فأومأت برأسي بالإيجاب , فقالت: قد رأيت أولادك وزوجتك قبل أيام , تلبس اللباس العربي الجميل , فقلت لها : تقصدين الحجاب الإسلامي الشرعي, فاستمرت بحديثها ولم تعقب ربما لأنها لم تفهم معنى حجاب شرعي وقالت: نساء العرب يلبسن ثيابا جميلة إلا أنها غير مألوفة في بلادنا , ولا يرتدي عند الروس غطاء الرأس إلا البابوشكا ( العجوز الروسية) لأنها ليس لديها المزاج لإصلاح شعرها والعناية به , وأدركت أنها قد تكون قد جرحت مشاعري في الحديث المرأة العربية المسلمة بطريقة استفزازية , فقالت : معذرة لا أقصد أبد الإهانة ولكن هذا الأمر عندنا بطبيعة الحال معروف, فقلت لا بأس عليك هوني على نفسك.
دخل صديقي العجوز الغرفة يحمل بين يديه حافظة صور وجلس بجانبي وأصبح يريني إياها الواحدة تلو الأخرى حتى استوقفته صورة يبدو أن له فيها ذكرى , وما أكثر ذكريات العجائز وأحرصهم على استذكارها ربما لأنهم يريدون أن يرجعوا إلى زمنها هروبا من الواقع وقال باهتمام: أنظر هذه زوجتي أيام الشباب كم كانت جميلة لقد توفيت ولم تفقد من جمالها شيئا, أشعر الآن كأنني رجعت أربعين سنة إلى الوراء, يا إلهي كيف تمر الأيام , تمر بسرعة كبيرة.... وهذه ابنتي كاتيا عندما كانت طفلة صغيرة وكان يشير إليها وهي أمامه , وهذا ولدي الذي يعيش الآن في روسيا ... وهذا الشاب الوسيم هل تعلم من هو ؟ إنه أنا , نعم يا أستاذ أنا كنت صاحب هذا الشعر الجميل والقامة الممشوقة والعزم القوي وووووو....وبدأ يثني على نفسه ما هو أهل له ومالا هو أهل له , فقاطعته لأنني لم أرد أن يسترسل في الذكريات فينقلب المجلس إلى تراجيديا محزنة وقلت له : ولكنك اليوم عجوز وسيم أليس كذلك , فضحكنا جميعا.
وإلى لقاء
أحمد عبد القادر الطويل