تابع10
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على حضرة سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
خرجت السيدة كاتيا من الغرفة وبقيت الصور في يد صديقي إياها ويشرح مناسبات التقاطها وبإسهاب ممل حتى مر وقت ليس بالقليل , وقد بدا عليه الملل فأصبح يسرع في عرض ما تبقى من الصور ومن غير ذلك الاهتمام الذي كان يظهره بداية الأمر.
دخلت السيدة كاتيا وهي تحمل في يدها طبقا من الحلوى الروسية الفاخرة وإبريق الشاي ووضعتها على الطاولة أمامي , ونادت زوجها الرجل الذي استقبلنا .
في الحقيقة كانت هذه أول زيارة لي لأسرة روسية , وإن معرفتي بعاداتهم يسيرة وإن عاداتنا تختلف عن عاداتهم , فالمرأة عندهم لا تستتر عن الرجل بل ربما العكس قد يحصل أن المرأة هي التي تستقبل الضيوف وتحادثهم والرجل يجلس منصتا , نعم هذا ما رأيت , وعلمت أن هذا المجتمع مجتمع نسائي من الطراز الأول وفي كل مجالات الحياة وعرفت فيما بعد أن السبب في ذلك ليس هو قلة حياء المرأة ورخصها لا أبدا ولكن السبب هو أن روسيا قد مرت بحروب عديدة مع الألمان فكانت المرأة تدبر المنزل وتعمل موظفة في الدولة والرجل في الخدمة العسكرية لا يأتي إلى البيت إلا في إجازة لمدة أيام قلائل كأنه ضيف, وقد دام هذا مدة طويلة تجاوزت السبعين سنة حتى سقوط الاتحاد السوفيتي فكان هذا عادة وكان من الطبيعي أن تحل المرأة محل الرجل في كل مجالات الحياة , ولا تستغرب لو رأيت امرأة ها هنا تقود جرارا أو حافلة نقل ركاب أو تعتلي سقف البيت تحمل المطرقة تصلح سقف بيتها القرميدي وووو إلخ.
أقول إن عدم معرفتي بعاداتهم جعلني أول الأمر محرجا ثم ما لبثت أن تعودت لشعوري بأنني في بيت صديقي .
قدّمت السيدة كاتيا لنا الحلوى فأكلنا وشربنا الشاي وتحدثنا طويلا عن عاداتهم وعاداتنا , فأحببت أن أغتنم الفرصة لكي أوضح فكرتين مهمتين رأيت السيدة لم تستوعبهما :
الفكرة الأولى: مصافحة الرجال للنساء .
والفكرة الثانية: الحجاب وغاية الإسلام منه.
ولم أطرح الموضوع هكذا فجا جافا ألقيه على مسامعهم بطريقة الأمر بغير دليل مقنع لهم , لأنهم في غاية الرقة والذكاء والثقافة , فضلا عن أن هاتين النقطتين من الأفكار الحرجة التي تصعب القناعة بها إلا لمن له إيمان عميق متجرد عن نفسه وشهواته , فصاحب الشهوة والزيغ والذي في قلبه مرض يحرص على الاختلاط المفسد بين الرجال والنساء ويحرص أيضا على العري للمرأة وتبرجها مما يتيح له فرصة أكبر في العبِّ من الشهوات وياله من إسفاف بقيمته نفسه البشرية وقيمة تلك المسكينة التي تصدقة, فبدأتُ أرتب الأفكار والجمل الروسية في ذهني لأن الموضوع يحتاج إلى لغة روسية عالية وإنني على وشك البدء بطرح الموضوع دخلت غرفة الضيوف فتاة شابة فألقت التحية علينا جميعا وجلست ,فقالت لي الأم : هذه ابنتي مركريتا ونظرت إليها وقالت:هذا الأستاذ أحمد هو عربي يعمل في الجامعة القرغيزية الكويتية التي في حيِّنا , فهزت برأسها محيية مرة أخرى, وانضمت إلى المجلس فصرنا خمسة أشخاص.
لا شك إنني الآن في موقف محرج , يا إلهي كيف سأوصل لهم الفكرة وهل سأنجح بإيصالها وإن فشلت لا شك سأخسر أربعة أطمع أن يدخلوا الإسلام , فدعوت الله في سري أن يحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .
بدأت كلامي بتكرار الاعتذار للسيدة مرة أخرى عن عدم مصافحتي لها وقلت لها وللجميع: أرجو أن لا تفهموا من عدم مصافحتي أنني أتكبر عليكم أو أنتقص من قيمة السيدة بل على العكس تماما أنا أحترم المرأة عموما كأم وأخت وزوجة وابنة , أحترم فيها رقتها وبساطتها وجمالها أحترم أولا وآخرا إنسانيتها فلولاها لا يمكن لابن آدم أن يستمر عيشه في هذه الحياة بطريقة سوية , فضلا عن أن الله تعالى أعلى شأن المرأة وأعطاها قيمتها ومكانتها اللائقة في المجتمع وقد قال نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام : استوصوا بالنساء خيرا , ولو جمعتُ من الآيات والأحاديث في إكرام المرأة لاحتجنا إلى مجلدات ضخمة, ولكن الله تعالى ما حرم شيئا إلا لسبب وهذا السبب لابد أن تكون فيه فائدة عظيمة للمجتمع والبشر جميعا.
نظرت في وجوه من حولي فرأيتهم محملقين فيٌّ يطلبون المزيد يريدون أن يفهموا علة التحريم في العقل , فأدرت ناظري ناحية ركن الغرفة التي نجلس فيها فرأيت أصيصا ( مزهرية) جميلة فيها ورود طبيعية جميلة فدققت النظر فيها فألهمني الله تعالى منها معاني ومعاني.
قلت لهم: كم جميلة هذه المزهرية وكم جميل تنسيق ما فيها من الورد , يبدو أن لكم عناية خاصة بالورود , ومن يفعل هذا عندكم , فقالوا: هذه ابنتنا مركريتا هي شغوفة بشراء الورود وتنسيقها وهي تمنع أي أحد من الاقتراب منها ولمسها حتى أخوها الصغير المدلل الغالي عندها نيكولاي تمنعه هو الآخر من الاقتراب من ورودها , فقلت : لم؟ , فقالت مركريتا لأن الورد بجماله وطيب رائحته , فإذا فقدهما بالشم واللمس لا يعد وردا, فأثنى والدها على كلامها وقال (ملاديتس), وتعني : عفارم عليك.
قالت السيدة كاتيا مقاطعة تريد عدم الخروج عن الموضوع : هيه لم تتهرب , قالتها مبتسمة , هل عجزت عن إيجاد الدليل , فقلت :لا , لم أعجز ولكن ابنتك أتت بالدليل , فقالو جميعا : كيف؟ فقلت: يقولون في الأدب العربي والروسي على السواء أن المرأة تشبه الوردة لرقتها وجماله , أليس كذلك ؟ فقالوا: بلى, فقلت: كما أن ابنتكم مركريتا أدركت سر منع أي أحد من الاقتراب من ورودها خوفا عليها من الذبول وذهاب رائحتها الزكية , كذلك الشرع الإسلامي ( مع فارق التشبيه) منع من لمس المرأة وإحصانها ووضع حدودا لا يقترب منها إلا صاحبها ( زوجها) كما أنه لا يقترب من الورود عندكم إلا مركريتا , وقد أثنيتم عليها جميعا حرصها على عدم الوصول إلى الورد.
لقد كرم الله المرأة في الإسلام بهذا وأغلى قيمتها في الوقت الذي نرى أن عندكم من يمتهن المرأة ويصفها بالمثل المشهور عندكم :بأنها شيطان , أليس كذلك ؟ وهذا نفسه تكريم للرجل الحقيقي أيضا إذ أنه كيفما كان دينه فإنه لا يقبل من أحد أن يقترب من عرينه , أليس كذلك؟
فبدأ الجميع يحملقون في وجوه بعضهم, فقالوا: هذا الكلام صحيح ونحن موافقون عليه , فقلت : هذا رأي ديني الإسلام ورأيي مستمد من رأي ديني فعلا.
وبسرعة فائقة وحتى لا أدع الموضوع تخبو جذوته في نفوسهم أدرت دفة الحديث عن موضوع الحجاب,فقلت لهم: أريد أن أعرف رأيكم فيما سأقوله لكم, فقالوا : بم؟ فقلت: لو كان عند أحدكم جوهرة ثمينة فماذا يفعل بها؟, فقال صديقي العجوز : أبيعها وأشتري بثمنها خمرا, فضحك الجميع , وقالت مركريتا : كم تحب الخمر أيها العجوز, فقلت : قصدي هو: كيف يحافظ عليها: فقالت السيدة كاتيا: ألفّها بالحرير وأضعها بصندوق من الفولاذ في البنك حتى لا يصل إليها أحد , وهذه أفضل طريقة في المحافظة عليها كما أعتقد, فقلت لهم : هل أنتم موافقون على رأي السيدة , فقالوا جميعا : رأي سديد, فقلت : بم تصفون من يفعل عكس رأيكم , فيحمل الجوهرة بيده ويطوف على الناس يريها لهم فهذا يمسكها وهذا ينظر إليها , فقالوا: نقول إنه مجنون لا شك في ذلك, فقلت : لم تصفوه بالجنون وأنتم تفعلون فعله , فقالوا: نحن لا ينبغي أن نفعل هذا الفعل , أتظننا مجانين , فقلت لهم : أنتم لستم مجانين ولكنكم مع الأسف وأرجو المعذرة تفعلون فعلهم , فقالوا: كيف ؟, فقلت: المرأة التي تساوي في القيمة البشرية أكثر مما تساويه هذه الجوهرة بأضعاف وأضعاف تشجعونها على التبرج والخلاعة فتمشي في الشارع شبه عارية ولا بأس أن تتأبط ذراع شاب من أصدقائها وتعرفون ما يحصل بعد من التجاوزات الخلقية التي لا يرضى بها دين أو خلق بشري سوي , وما أمرها الله تعالى بالحجاب إلا حفاظا عليها وصونا لها من أن تتخطفها أنياب الكلاب وهذا نداء العقل والضمير ذكره الله تعالى في قرآنه ألا نعتبر ونفكر جديا في سترها ؟, فبهت الجميع , وقالوا : نوافق أيضا على هذا الكلام , ودليلك في مكانه.
حمدت الله تعالى في سري على أن يسر لي عرض بعض ما أمر الله تعالى به عرضا موفقا ولم أقدم لهم شخصية أتت من بلاد العرب رخيصة تطمع بالزائل فيما عندهم كما يفعل الكثير من أبنائنا الذين يأتون إلى هذه البلاد للدراسة أو العمل, ولا أتباهى بموقفي هذا أمام أحد, وإن همي لهو أكبر من حديث النفس الرخيص هذا , همي هو تبليغ الرسالة للناس في هذه البلاد رسالة الحق والخير والإسلام والسلام.
طلبت من صديقي العجوز سيميو المغادر فأذن لي وشكروني جميعا على الزيارة وشكرتهم كذلك على حسن الاستماع ووعدتهم بالتواصل كأصدقاء وجيران.