في البدء أتوجه بالشكر الجزيل إلى الأخ والأستاذ الغالي محمد (أبو ياسر) على طرح هذا الموضوع المهم ، وأسأله تعالى أن يكون في ميزان حسناته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، كما ويسمح لي أن أضيف شيئًا على هذا الموضوع، بعد أن كثر الحديث والطروحات حوله، فأقول وبالله التوفيق:
عرف العلماء منذ القرن الثاني للهجرة النبوية الشريفة تآليف عديدة في الإعجاز البياني للقرآن الكريم. بل كاد أن يكون مفهوم إعجاز القرآن هو الإعجاز اللغوي فحسب. فالتحدي الذي ورد في القرآن بالإتيان بعشر سور من مثله أو بسورة مثله كان على مر القرون مفهومه من حيث اللغة والبيان والمعنى ليس إلا. وقد تعرض موضوع الإعجاز اللغوي لدراسات معمقة وأدلى العلماء بدلائهم في تبيان أوجه الإعجاز في كل سورة وآية بل لفظة من ألفاظ القرآن حتى عدَّ بعضهم أكثر من عشرين لونا من ألوان البلاغة في آية واحدة مثل قوله تعالى في سورة هود ” وقيل ياأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين” فتحدثوا عن بلاغته وفصاحته وبيانه وبديعه وتأليفه وأسلوبه ومطالعه ومقاطعه وفصله ووصله وترغيبه وترهيبه وأمره ونهيه وتسلسل التشريع فيه وأحكامه بل كل لفظة جاء بها وما أحاطت به من معان ومقاصد. وسيظل الناس يزيدون ذلك تمحيصا وبيانا كالبحر دون أن يصلوا إلى غوره.
أما في مجال العد والأرقام والإحصاء فقد قام المسلمون منذ عصر الحجاج بن يوسف الثقفي بإحصاء حروف القرآن وكلماته وسوره وأماكن الوقف فيه وأماكن الوصل وسجداته وأعشاره وأحزابه وغير ذلك مما أمكنهم واسترعى أنظارهم . وكان هدفهم من ذلك تثبيت الواقع خوفا من زيادة أو نقصان أوخطأ أو سهو من النساخ والكتبة وكان ذلك مما هيأه الله من وسائل لحفظ كتابه .ويشكك السخاوي (المتوفي سنة 643 هجرية) في فائدة ذلك بقوله : “لا أعلم لعد الكلمات والحروف من فائدة ، لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان والقرآن لا يمكن فيه ذلك”
وللموضوع بقية، ولكن ممكن أن نضع القارئ الكريم حول أسس ثابتة متفق عليها عن العلماء نجملها بالآتي:
1) الإشارات الرقمية في القرآن الكريم باب مفتوح للبحث وقد يجد في كل باحث ما يوافق ذوقه أو أمنيته وقد يستنتج بعض التوافقات والظواهر وقد يراها ظاهرة فريدة وقد يقنع بها غيره . وكل ذلك مفتوح الا أنه يجب أن يعتبر ذلك من المسائل الظنية ولا تنسم بصفة القطع بأي حال من الأحوال ما لم تكن معززة بنتائج مستندة الى قواعد رياضية وإحصائية رصينة .
2 ) الرجوع إلى الرسم العثماني ضروري عند أخذ أعداد الحروف والكلمات القرآنية بنظر الإعتبار.
3 ) أن يكون المستند لدعوى الإعجاز متواترا لا خلاف فيه .فلا يجوز الإستناد الى أمور مختلف فيها مثل عدد آيات بعض السور. فالبسملة إختلف فيها هل هي آية من كل سورة أم من الفاتحة فقط أم هي بعض سورة من سورة النمل فحسب. وهذا الإختلاف ليس ثانويا بين من اهتم بأعداد الآيات من العلماء بل هو اختلاف بين أئمة الفقه ( كأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما) وهو خلاف يعتد به مما يعني أن عدد آيات السور أمر مختلف فيه وليس متواترا واختيار تعداد معين لأعداد الآيات جائز ولكن لا يعطي أية دلالة إعجاز إذا كان العدد مختلفا فيه.
إن كل الدراسات يجب أن تستند إلى التواتر . كما أن القراءات القرآنية المتواترة يجب أخذها بنظر الإعتبار . فالتفوق العددي وفق قراءة لا يعطي مدلولا لدى من يقرأ بقراءة أخرى كما أنه لا يعطي دليلا بأن تلك القراءة وحدها صحيحة وغيرها غير صحيح.
4-من مجمل موضوع الدراسات العددية المتعلقة بالقرآن الكريم يتأكد وجود إعجاز رقمي في القرآن وإن ما يقدمه باحث واحد من قليل من الحقائق قد يضاف إلى ما يقدمه غيره فتتكون ثروة في هذا المجال على مر السنين . لذلك فالموضوع لا يزال حديث النشأة ويحتاج إلى المزيد من البحث والتقصي وقد يستغرق سنوات طويلة قبل أن ينضج ويؤتي أكله بشكل راسخ .
5-إن كل بحث لإثبات إعجاز رقمي يتعلق بعدد معين يجب مقارنته بأرقام أخرى قريبة من مستواه . فعند بذل جهد لإثبات أن الرقم 7 متفوق يجب أن تتم محاولات مشابهة للرقمين 6 و 8 القريبين منه. ثم بعد ذلك يتقرر إن كان الرقم 7 متفوقا بشكل ملموس على كل من الرقمين المحيطين به أم لا . وعند ذلك فقط يكون إستنتاج الإعجاز في رقم معين راسخا.
6- إن النهج الذي سار عليه الإمام النورسي في الوصول إلى إثبات الإعجاز من خلال الجمال البياني للقرآن بالإستناد إلى الأعداد التقريبية يبدو أسلم الطرق في هذا المجال بالوقت الحاضر وهو يخاطب الشعور والضمير كما يخاطب العقل.
7- الحسابات في معرفة الحوادث المستقبلية أمور ظنية ولا تدخل في امور العقيدة ونرجو أن لا يكون هناك ضير في تصديقها أو إنكارها.
مع خالص شكري وتقديري للأخ الأستاذ محمد .... والسلام عليكم