(4) تدبر الآيات المقروءة وبقية أذكار الصلاة والتفاعل معها
القرآن نزل للتدبر { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليذكّر أولوا الألباب } ولا يحصل التدبر إلا بالعلم بمعنى ما يقرأ فيستطيع التفكّر فينتج الدمع والتأثر قال الله تعالى : (والذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم لم يخرّوا عليها صمّا وعميانا) وهنا يتبين أهمية الاعتناء بالتفسير قال ابن جرير رحمه الله : " إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله (أي : تفسيره) كيف يلتذ بقراءته " مقدمة تفسير الطبري لمحمود شاكر 1/10 ولذلك فمن المهم لقارئ القرآن أن ينظر في تفسير ولو مختصر مع التلاوة مثل كتاب زبدة التفسير للأشقر المختصر من تفسير الشوكاني وتفسير العلامة ابن سعدي المسمى " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " وإن لم يكن فكتاب في شرح الكلمات الغريبة مثل " المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن " لعبد العزيز السيروان فإنه جمع فيه أربعة كتب من كتب غريب القرآن. ومما يُعين على التدّبر كثيرا ترديد الآيات لأنه يعين على التفكّر ومعاودة النظر في المعنى وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم " قام ليلة بآية يرددها حتى أصبح وهي : (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) ". رواه ابن خزيمة 1/271 وأحمد 5/149 وهو في صفة الصلاة ص: 102
وكذلك فإن مما يعين على التدبر التفاعل مع الآيات كما روى (حذيفة قال : صليت مع رسول الله ذات ليلة.. يقرأ مسترسلا ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح و إذا مر بسؤال سأل و إذا مر بتعوذ تعوذ) رواه مسلم رقم 772 وفي رواية (صليت مع رسول الله ليلة ، فكان إذا مر بآية رحمة سأل ، و إذا مر بآية عذاب تعوذ ، و إذا مر بآية فيها تنزيه لله سبح). تعظيم قدر الصلاة 1/327 وقد جاء هذا في قيام الليل.
وقام أحد الصحابة ــ وهو قتادة بن النعمان رضي الله عنه ــ الليل لايقرأ إلا (قل هو الله أحد) يرددها لا يزيد عليها البخاري : الفتح 9/59 وأحمد 3/43
وقال سعيد بن عبيد الطائي : سمعت سعيد بن جبير يؤمهم في شهر رمضان وهو يردّد هذه الآية (فسوف يعلمون. إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحبون. في الحميم ثم في النار يُسجرون.). وقال القاسم رأيت سعيد بن جبير قام ليلة يصلي فقرأ (واتقوا يوما تُرجعون فيه إلى الله ثم تُوفى كل نفس ما كسبت) فرددها بضعا وعشرين مرة. وقال رجل من قيس يُكنى أبا عبد الله : بتنا ذات ليلة عند الحسن فقام من الليل فصلى فلم يزل يردد هذه الآية حتى السّحر : وإن تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها) فلما أصبح قلنا : يا أبا سعيد لم تكد تجاوز هذه الآية سائر الليل ، قال : أرى فيها معتبرا ، ما أرفع طرفا ولا أردّه إلا وقد وقع على نعمة وما لا يُعلم من نعم الله أكثر. التذكار للقرطبي ص: 125
وكان هارون بن رباب الأسيدي يقوم من الليل للتهجد فربما ردد هذه الآية حتى يُصبح : (قالوا يا ليتنا نُردّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) ويبكي حتى يُصبح.
ومما يعين على التدبر أيضا حفظ القرآن والأذكار المتنوعة في الأركان المختلفة ليتلوها ويذكرها ليتفكّر فيها.
ولا شك أن هذا العمل ـ من التدبر والتفكر والترديد والتفاعل ـ من أعظم ما يزيد الخشوع كما قال الله تعالى : (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا)
وفيما يلي قصة مؤثرة يتبين فيها تدبره وخشوعه صلى الله عليه وسلم مع بيان وجوب التفكر في الآيات : عن عطاء قال : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال ابن عمير : حدّثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة ذريني أتعبّد لربي ، قالت : قلت : والله إني لأحبّ قربك ، وأحب ما يسرّك ، قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي ، فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره ، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض ، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ لقد نزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكّر ما فيها : (إن في خلق السموات والأرض... الآية) رواه ابن حبّان وقال في السلسلة الصحيحة رقم 68 : وهذا إسناد جيد.
ومن التجاوب مع الآيات التأمين بعد الفاتحة وفيه أجر عظيم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا أمَّنَ الإمام فأمِّنُوا فإنه مَن وافق تأمِينُهُ تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري رقم 747 وهكذا التجاوب مع الإمام في قوله سمع الله لمن حمده فيقول المأموم ربنا ولك الحمد وفيه أجر عظيم فعن رفاعة ابن رافع الزرقي قال : كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال : سمع الله لمن حمده ، قال رجل وراءه : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فلما انصرف قال : من المتكلم ، قال : أنا ، قال : رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أولُ. رواه البخاري الفتح 2/284