تابع8
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على حضرة سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
هذه هي بدايات علاقتنا الفعلية مع صديقي العجوز سيميونوفيتش وبعد أيام من رحلتنا رأيته خارجا من الجامعة فمشيت معه وتحدثنا طويلا وبادلني في خلالها مشاعر المودة الصادقة وأذكر أنه حينها قال لي : إنك أنت الوحيد الآن من يحترمني إلى درجة أشعر فيها بصدق التعامل وإنك أنت صديقي الوحيد , فقلت له: لا تبالغ فأنا أشعر بأن الجميع يحترمونك ويكنون لك المودة , فقال: كله مصالح لو أنني قصرت في عملي قليلا لواجهوني بسيل من الانتقادات, فقلت دعنا من هذا الكلام فإن احترامي لك هو واجب إنساني وديني لا مفر لي منه فضلا عن أنك رجل محترم لذا وجب علي احترامك إلى هذا الحد , قل لي: متى تقول كلمة النجاة ؟, فقال : أية كلمة؟ فقلت: الشهادتين, فقال: وهل لا بد لي أن أقولها حتى أكون شخصا محترما . فقلت :تقولها حتى تنجو من عذاب الله يوم القيامة وأيضا بها تكسب سعادتي الدنيا والآخرة , فقال :كيف لكلمة أن تجعلني سعيدا هذه السعادة الخيالية التي تحدثني عنها , وكم من الكلمات الجميلة نقولها للآخرين فلا تغير من معاني الأشياء شيئا إلا المجاملة الفارغة , ثم إنني أعلم أن دينكم يحرم الخمر والتمتع بالنظر إلى جمال النساء والتغزل بهن فأين تلك السعادة التي تمنيني بها والتي ستحل محل الشراب والنساء , ثم إنني أعجب منكم أيها العرب المسلمون كيف يستطيع الواحد منكم أن يعيش دونما خمر أو( لوبوفنيتسا )يقصد: خليلة.
قال صاحبي العجوز تلك الكلمات وهو مقتنع بها تماما , وفي الحقيقة هو يشعر أنه على صواب, لمَ؟ لأنه لم يجرب مرة واحدة السعادة الروحية الكامنة في القرب من الله تعالى وهو عندما يتحدث معي يتحدث كشخص روسي بامتياز يعتد بانتمائة لجنسه بل انتمائه لفكر لينين الذي بقي الإعلام الروسي ردحا من الزمن يردد تعاليمه وأفكاره في آذانهم فلا قنوات تلفزيونية إلا الروسية وحسب ولا مذياع إلا عبارة عن سماعة معلقة في كل شقة مربوطة بإذاعة المدينة التي يعيش فيها , فمن الطبيعي أن يعتقد بأن الدين أفيون الشعوب , ومن الطبيعي أن يعد ما أمنيه به من سعادة لم يشعر بها أساسا إلا من قبيل ( السكاسكا) يعني : الترهات.
فأدركت حينها ومن هذه اللمحات البسيطة التي تحدثنا بها سبب سقوط أعظم إمبراطورية مادية في العالم ( الاتحاد السوفيتي) أنها كانت تقف على رِجل واحدة المادة البحتة والإلحاد واستبعاد الرِِجل الثانية ( إن صح التعبير) الروح الأمر الذي عجل بانهيارها هذا الانهيار المفاجئ الذي أدهش العالم بأسره , لأن المادة بغير روح لا تخلق وازعا أخلاقيا رصينا يتحصن المجتمع به من الفساد الاجتماعي , وإليكم أمثلة عديدة شهدتها :
المثال الأول: كثرة السرقة في البلاد التي حكمتها الشيوعية , وسبب ذلك أن الشخص الذي لا يؤمن بالآخرة ولا يؤمن بمراقبة الله له يجتهد كل الاجتهاد في انتزاع المال من الآخرين والتي هي أسباب السعادة بزعمهم بأية طريقة كانت , والذي لا يشعر بمراقبة الله له ولا بحسابه يوم القيامة له يتهافت على الدنيا كتهافت الفراش على النار لأنه يعتقد أن في الحياة فرصة واحدة فقط ولا يوجد غيرها فإذن لا بد أن يتنازع نزاعا شرسا مع أنداده من البشر حتى لا يسبقوه إلى أسباب السعادة تلك.
المثال الثاني : العجائز الروسيات ( البابوشكا) هن أكثر خلق الله تعالى سوءا ولؤما وهذه حقيقة يعرفها من عاش في هذه البلاد , وكنت على الدوام أسأل نفسي : لِمَ كل هذا اللؤم من تلك العجائز؟ مع العلم بأن الصبايا الروسيات على العكس تماما تظهر فيهن البساطة والرقة بشكل واضح فما إن يطعن في السن حتى ينقلبن شياطين والعياذ بالله. والسبب هو نفسه ما ذكرته في المثال الأول من أن الإنسان إذا فقد صلته بالآخرة وعلم أن هذه الحياة هي دنياه وآخرته جمع منها ما يستطيع بكل السبل , وهذه العجائز حينما شعرن حقيقة بأن جنتهن قد أوشكت على الهلاك وزهرة حياتهن قد ذبلت بالفعل صرن أمام حقيقة طالما كن يخشينها ألا وهي فقد الأمل بكل هذه الدنيا ومن فيها وسُلِبن الرقة المفتعلة التي كن يتزين بها أيام نضارة الشباب .
وإذا علمنا بالفعل أن الفكر الإلحادي قد كرس هذه النظرة فيهن وهن صبايا ومجد أمر المرأة حتى لتكاد تقول أنا في مقدمة المجتمع وكذلك الرجل الذي تلاعب بهن بأساليب شيطانية من الحفلات الراقصة وشرب الخمور والسهر حتى الصباح حتى يحصل على ما يريد بعيدا عن عيون الرقباء من الأهل والأقرباء ولا قانون خلقي أو ديني أو اجتماعي يردع , كل ذلك كرس نظرة العجب وطول الأمل بدوام تدفق نهر الشباب فلا عجب والكل يتودد إليهن والكل يطلب منهن لقاء والكل يبذل لهن الكرامة والنقود والورود حتى يصل إلى مبتغاه وغايته الرخيصة , وبعدما (تضرس ) الفتاة منهن وتقرر الإقلاع عن التسكع بالزواج وتجد زوجا من بين هؤلاء الذين خاضت معهم تجارب الغرام وتتوسم فيه الإخلاص لا يدوم زواجهم في كثير من النماذج أكثر من سنة فيحصل الطلاق , لم؟ لأن الزوج قد أدمن تعدد الأشكال من النساء ولا يقنع بواحدة , والزوجة إنها إن غضت النظر عن أية علاقة قد تحس بها بين زوجها أو فتاة أخرى فإنها بالتأكيد لا تستطيع الصبر مدى طويلا على هذه الحال فتطلب منه الانفصال أو بالأحرى تطرده وتبقي أولاده معها والقانون في صفها مع البيت والعفش ويذهبان كل في طريق وبعدها هو يجد من يلعب معها اللعبة الأولى وهي الأخرى تجد من سيكذب عليها وهي عالمة بذلك فلا تثق المرأة بالرجال هاهنا على أية حال.
ولكثرة التجارب التي تمر بها هذه المسكينة واللطمات التي تصفعها يمنة وشمالا مع مرور الأيام وثقل عيشها مع الأولاد التي هي لوحدها تقوم بأمرهم دون الأب ثم مع قلة دينها وإلحادها يؤول الحال معها في نهاية حياتها إلى ما ذكرته من البؤس , ثم يكتمل البؤس لديها فيقضي عليها عندما يتبرم الولد بوالدته التي وهبته عمرها وسعت بكل السبل لكي تقدم له لقمة العيش فيطردها من بيته التي قضت المحكمة لها بالحق من أبيه , أما إن كان الولد فيه من البر شيء يذكر تركها في شقتها وحيدة تقاسي ألم الوحدة ومرارة الحياة ونكد نكران الجميل ليعيش مع امرأة في شقتها تعمل حتى المساء لتقدم له لقمة العيش وكأس الخمر وعلبة السجائر , وغالبا ما يتسكع مع أقرانه في الطرقات سكرانا لا يعمل ينتظر برها وعطفها عليه في المساء عندما ترجع .
إنني أدركت أخير أن طريق الدعوة مع صاحبي سيميو هذا طويل طويل ولا يطويه إلا عناية خاصة من الله تعالى وكثرة المثابرة في تذليل الصعاب أمام هذا العجوز السوفيتي الوفي.
ولم أكن أريد أن ألح عليه بشدة في تقبل فكرة الإسلام خشية ردة الفعل فحاولت مباشرة تحويل الموضوع , وكان هو الأخر قد سبقني إليه فطلب مني زيارته في بيته الذي يسكن فيه مع ابنته وزوجها وأحفاده, فقبلت الفكرة ومشينا إلى البيت.
وإلى لقاء
أحمد عبد القادر الطويل
بشكيك